مفهوم العقيدة ليس قرءانياً

إن مصطلح العقيدة: مصطلح فلسفي دخل مع دخولِ علم الكلام إلى المسلمين، فلا وجود له في القرآن، أو السنة، وباستعماله ظهرت إشكالات كثيرة في مسائل الإيمان وأصوله.

قال ابن فارس، في كتابه: (مقاييس اللغة). [ عقد: العين والقاف والدال أصل واحد يدلُّ على شَدٍّ، وشدةِ وثوق. وإليه ترجع فروع الباب كلها] ا هـ.

ومن ذلك المعنى، سمي الاتفاقُ، والإبرام، والانتهاء، عقداً، فنقول عقدُ النكاح، عقد العمل، عقد النية، عقدت الحبل، فكلُّ هذهِ المعاني يظهرُ فيها الإحكام والانتهاء والإبرام.

فالعقيدةُ اصطلاحاً: هي ما انعقد عليه القلب تصديقاً جازماً ولايشترط البرهنة عليه.

وبمعنى آخر هي مجموعة من الأفكار التي ترسخت في النفس وخضع الإنسان لها سلوكاً. وتصبح عقيدة بحق صاحبها بصرف النظر عن صوابها أو خطئها.

وقال بعض المفكرون: إن الإسلام هو عقيدةٌ ينبثق منها شريعة، والعقيدةُ: هي الفكر الأساسي وما يتعلق به من تفصيل، ومحله القلب وهو دافع للإنسان. أما الشريعةُ: فهي خطابُ الشارع المتعلق بأفعال العبادِ، اقتضاءً، أو تخييراً، أو وضعاً، ومحلها سلوك الإنسان، هذا الأصل في مصطلح العقيدة، وبما إن مصطلح العقيدة أصبح للدلالة على الأسس والمنطلقات، وصارَ يستعملُ في ذلك المعنى بصرف النظر عن كون ذلك المعتقد صواباً أم خاطئاً. فلم يعد يدل مصطلح العقيدة على الفكر الصواب، وإنما أصبح يدلُّ على وجود أفكار كلية للشيء. كقولنا: عقيدةُ الرأسمالية وعقيدة الاشتراكية، ومن هذا المنطلق جرى على ألسنةِ المسلمين استعمال مصطلح العقيدة على كل النصوص الغيبية سواء كانت قطعية الثبوت أم ظنية، لأنّ النصوصَ الظنية المتعلقة بالغيبيات، ليست هي حكماً شرعياً ولا تتعلق بالسلوك، وإنما هي من أعمال القلب. والأمر إما أن يكون عقيدة، أو حكماً شرعياً. فإذا انتفى عنه الحكم الشرعي فهو لا شك عقيدة؛ إذ لا ثالث لهما. ومن هذا الباب دخلَ الإشكال، فهل المسألة القلبية الظنية تدخل تحت ما ينعقدُ القلب عليهُ تصديقاً جازماً؟.

فمن أطلق عليها عقيدة تجاوزاً، وقال: إنّها تفيد العلم: فرقَ بينها وبين ما هو عقيدة أصلاً، فقال منكر العقيدة القطعية الثبوت يكفر، ومنكر العقيدة الظنية الثبوت يفسق، وكلاهما عقيدة.

أمّا من لم يطلق عليها عقيدة، لعدم تحقق المعنى الاصطلاحي فيها، وهي انعقاد القلب تصديقاً جازماً أبقاها من عمل القلب، وهي مفهوم ثابت بالظن الغالب. أطلق عليها أخبار غيبية واجب التصديق بها ومنكرها فاسق.

والملاحظ أن استعمالَ مصطلح العقيدة، أثار الإشكالات الكثيرة التي سبّبت تبادل الاتهامات والردود، وأضاع الجهود في غير محلها، بل إن العقيدة تدل على التعصب والانغلاق ورفض الآخر مع احتمال نشوء الحرب بين المختلفين في العقيدة في أي لحظة لعدم وجود البرهان على أفكارهم وبالتالي هي لا تقوم على التصديق وإنما على حمل الأفكار والتعصب لها .

والذي يضبط الخلاف ويلم شمل المسلمين هو استعمال المفهوم القرآني، الإيمان، فما معنى الإيمان؟.

تعريف الإيمان:

وبعدَ هذا العرض لمصطلح الإيمان في القرآن، نأتي لتعريفه وضبطه ليسهل حفظه، ويُستعملَ في مكانه المناسب، فَعُرِّفَ الإيمان سابقاً بأنه: ما وقر في القلبِ وصدَّقه العمل، وهذا التعريف سليمٌ حسب ما  عرضناه. ولكنّه قاصرٌ لعدمِ تضمنه اشتراط الصواب للمفاهيم التي يستقر عليها القلب، فضلاً على أنّه غير مناسب لِلُغة العصر الحاضر، وقد يُفرّغُ من محتواه عند كثير من الناس، فلذلك وضعنا تعريفاً آخر نحسبُ والله أعلم أنّه يفي بالغرضِ الموضوع من أجله:

الإيمان: هو المفاهيم الكلية المطابقة للواقع بشكل جازم عن برهان

وقصدنا بكلمة المفاهيم: الأفكار التي ينبثق منها سلوك ما، وبذلك يتضمن الإيمان: العمل، ولا ينفك عنه، فالمؤمن إنسان فاعل إيجابي، فإذا انفصل العمل وأُهمل، صارت المفاهيم أفكاراً مجردة، وبالتالي انتفى عن الإنسان الإيمان،  وصار مسلماً فقط. أي انتقل من حالة الفاعلية إلى حالة التفاعل فقط، من حالة الإنتاج إلى حالة الاستهلاك وذلك كونه يجزمُ ويصرحُ بأفكار الإسلام وكفى الناس من شره.

وقصدنا بكلمة الكلية: أنّ المفاهيم يجبُ أنْ تكونَ شاملة للإنسان، والكون والحياة، وعلاقة الإنسان بما قبل الحياة وما بعدها، وليس مفاهيم جزئية تتناول جوانب من الحياة فقط.

وقصدنا بكلمة المطابقة للواقع: أنْ تكونَ المفاهيم لها وجود موضوعي: وهذا لا يتأتى إلاّ إذا قامَ البرهان على المطابقةِ، وإذا تطابقا يعني صواب المفاهيم بشكل جازم.

ومن خلال العرض لمصطلحي العقيدة والإيمان، نلاحظُ أنّهما غير متطابقين، رغمَ وجود الشبه بينهما، فالأول: أي العقيدة، غير مرتبط بها العمل ولايشترط لها الصواب، بينما الثاني: مرتبط به العمل ارتباط اللازم بالملزوم ويشترط صواب الأفكار، فلذا يجب إبعاد مصطلح العقيدة، وتجميده، واستعمال مصطلح الإيمان، الذي اختاره الله من لساننا لهذا المعنى وهو مفهوم حيوي لا يؤديه مصطلحٌ آخر، وخاصة أن مصطلح العقيدة يمكن أن يتعلق بالإرهاب والإجرام، بخلاف مفهوم الإيمان أو الإسلام فهما يتناقضان مع الإرهاب والإجرام، فلا يمكن أن يوجد مؤمن أو مسلم إرهابي أو مجرم قط، فإن ذلك يتنافى مع دلالة الكلمتين لساناً وتطبيقاً، فالإسلام من السلم ، والإيمان من الأمن.

قالَ رسول r: ((الإيمانُ بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).