مفهوم الربانيين
تفسير { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }آل عمران 79
إن مفهوم الانتماء هو صفة لازمة للإنسان فلا تجد إنسانا دون انتماء فمن الناس من ينتمي إلى الأسرة والقبيلة ، ومنهم إلى القومية ، ومنهم إلى الوطنية ، ومنهم إلى العلم ، ومنهم إلى الإنسانية ، ومنهم إلى الحزبية ، وآخرين للتقدم والاشتراكية….الخ .
وهذا يدل على أهمية الانتماء في حياة الناس واستمرارها ، وجعل قيمة للانتماء ليعيش الإنسان من خلالها ، ولها ، ومن هذه الأهمية للانتماء يجب على الناس أن يعرفوا إلى من ينتمون وما هو الانتماء الحقيقي ؟.
إن الله عز وجل أمر رسله أن يطلبوا من الناس أن لا ينتموا إلى الملائكة أو الأنبياء ناهيك عن زيد وعمرو من الناس فقال عز شانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } آل عمران 79- 80
وأمرهم بالانتماء إلى الرب سبحانه وتعالى وذلك بقوله (كونوا ربانيين) وهذا الانتماء هو أجل وأعلى الانتماء كيف لا والانتماء إنما هو للرب الخالق المدبر سبحانه وتعالى ؟! فكيف يكون هذا الانتماء ؟
أمر الرب في الوجود ذو شقين:
الأول:أمر الرب الكوني ( آفاق وأنفس)
الثاني: أمر الرب الشرعي ( وحدانية الله وشريعته)
فمن يعلم بأمر الرب الكوني فقط فهو عالم كوني ، ومن يعلم بأمر الرب الشرعي فقط ، فهو فقيه ديني ( أحبار و قسيسين ….).
قال تعالى {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }المائدة63
لاحظ كيف إن الربانيين أعظم من فقهاء الدين وذلك لتقديمه سبحانه وتعالى الربانيين على فقهاء الدين وقطعا الربانيين غير فقهاء الدين بدليل عطفهم على بعض فمن هم الربانيون ؟
لمعرفة ذلك لابد من استحضار واستصحاب أمر الرب .
إن أمر الرب ذو شقين: الأول: أمر الرب الكوني ، والآخر أمر الرب الشرعي ، ولعملية الانتماء إلى الرب ولكي يصير الإنسان ربانياً لابد من دراسة واكتشاف أوامر الرب الكونية من خلال السير في الأرض ومعرفة كيف بدأ الخلق آفاقاً وأنفساً وتوظيف هذا الإيمان ووحدانية الله الخالق المدبر ، وأنه واحد أحد ليس كمثله شيء ، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فيتم عند هذا الرباني إدراك وحدانية الخالق المدبر و أنه لا اله إلا هو الحي القيوم وبالتالي يخشع قلبه ويخشى الله ويخافه .
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
وبعد هذه المعرفة لأمر الرب الكوني من خلال الآفاق وتوظيفه في مسألة وحدانية الله بالألوهية تأتي مسألة أمر الرب الكوني من خلال الأنفس وعلاقتها بأمر الرب الشرعي للناس وذلك بإنزال شرع حدودي لتنظيم علاقات الناس ببعضهم بعض وتنظيم عبادتهم والأمر بالتمسك بالأخلاق والفضيلة.
فالملاحظ إن أمر الرب الكوني وأمر الرب الشرعي متداخلان ببعضهما لا ينفكان وأية محاولة للتفريق بينهما أو تطبيق أحدهما دون الأخر يظهر الاضطراب والقلق والتوتر والفساد في المجتمع ، فلذا يجب على الإنسان أن يأخذ بالأمرين كليهما معاً، فكلاهما أمر الرب وبالتالي يصير هذا الإنسان ذا انتماء رباني فلا ينتمي إلى زيد أو عمرو من الناس أبدا و يصير في منصب الخليفة الصالح العادل ووطنه الكون كله وفكره شمل الناس جميعا لا محاباة ولا مداهنة في أمر الرب تبارك وتعالى.
فالانتماء إلى مقام الربانيين لابد به من شروط يجب أن تتحقق بالإنسان حتى يتشرف بصفة الانتماء الرباني ألا وهي:
أولا: أن يكون الفكر الذي يحمله ويدعو له فكراً شمولياً عن الإنسان والكون والحياة وعلاقاتهم ببعضهم وبما قبل الحياة وبما بعدها .
ثانيا: أن يكون الفكر له الطابع الإنساني يستوعب الناس كلهم عبر الزمان والمكان وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالفكر الرباني لأن الرب هو رب الناس جميعا وعالم بما يصلح لهم ومالا يصلح:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الملك 14
فيضع تشريعا إنسانيا دون محاباة لأحد أو مهادنة لأن الله مستغن عن الجميع والتشريع الذي يضعه الخالق المدبر غير مرتبط بالزمان والمكان قطعا والناس تعيش ضمن الزمان والمكان فلابد من عملية تفاعل مع شرع الله الدائم الحدودي والتوليد له لشرع نسبي يخضع للزمان والمكان حسب الأرضية المعرفية التي يملكها كل مجتمع وبالتالي يبقى شرع الله يعطي عطاء مستمرا عبر الزمان والمكان يصلح المجتمعات ويقودها نحو الفلاح والسعادة والسلام والاطمئنان والمحبة للناس كلهم.
لأن الله هو رب الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } {مَلِكِ النَّاسِ } {إله النَّاسِ } الناس1-3
ثالثا: أن يكون فكره فكراً موضوعياً و ذلك من خلال التعامل مع سنن الله في الوجود المشاهد:
العنكبوت 20
فلا وجود للخرافات العلمية والدينية ولا نظريات أو ممارسات استبدادية في المجتمعات ، وإنما الوجود لما يشهد عليه الواقع بالشاهدين العدلين اللذين هما محل صدق عند الناس جميعا ومنزهين عن المحاباة أو المداهنة ألا وهما الآفاق والأنفس، عندئذ يعطى المصداقية للأمر ويكون محلا للتسليم والقبول.
لذا ؛ ينتفي عن الرباني صفة الهوى والمحاباة والمداهنة والمصلحة الشخصية والاستبداد في الرأي والتعصب لموقف خاطئ ؛ إنه دائما يستحضر قوله تعالى:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256)
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17)
(إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات:55)
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (المائدة:99)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) (الأعلى:9)
لذا ؛ يجب أن ننفذ أمر الرب وننتمي إليه ونصير ربانيين وبالتالي لا توجه إلينا أية تهمة جاهزة لتصفية الفكر المعارض نحو الإرهابية أو الطائفية أو التخريبية أو الأصولية أو الرجعية … وإنما توجه لنا تهمة واحدة لا غير وهي:
(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) (غافر:28)
فالتهمة هي الانتماء إلى الرب والدخول في مقام الربانيين والتعصب لهذا الموقف ولاء وبراء.
ويهدف الرباني من خلال رسالته إلى أمور منها:
أولا: نشر السلام والمحبة بين الناس جميعاً وجعلهم يتعايشون ويتعارفون ويتعاونون فيما بينهم على عمارة الأرض والتغلب على مصاعب الحياة وذلك انطلاقاً من أمر الرب:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
فالأرض التي نعيش عليها هي ملك للجميع وكذلك ما تحمل الأرض من كنوز وخيرات فهي حق للجميع لأن الرب تبارك وتعالى قال: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (لقمان:20)
والسخرة هي الخدمة الإجبارية المجانية ، فكان التسخير هو للناس جميعاً وليس لزيد أو عبيد من الناس، فالناس جميعاً لهم حق الحياة على الأرض بسلام واطمئنان كما أن لهم الحق بالاستفادة من خيرات الأرض ويجب على الناس جميعا أن يحافظوا على سلامة الأرض من الذي يهدد أمنها على الصعيد البيئي وعلى الصعيد الإنساني وأية جهة تسول لها نفسها بتهديد الأمن والسلام يجب على باقي المجتمعات أن يأخذوا على يديها ويمنعوها وإلا هلكوا جميعا.
ثانيا: ترك الناس أحراراً على الصعيد الديني والاجتماعي والسياسي.
انطلاقا من أمر الرب (لا إكراه في الدين )، ومن أمره (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، فلذا يترتب على الرباني بشقيه اللذين لا ينفكان عن بعضهما بعضا (العلم الكوني من أفاق وأنفس ، والعلم الديني من توحيد وشريعة) لأن العلاقة بينهما متداخلة فوحدانية الله لا يمكن إلا من خلال معرفة الآفاق (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)
كما إن الشريعة لا يمكن تطبيقها إلا بدراسة الأنفس لأن شرع الله حدودي غير مرتبط بالزمان والمكان والأشخاص ولكل مجتمع نصيبه حسب أرضيته المعرفية.
وهذه الأمور يهدف الرباني لتحقيقها في مجتمعه ويحملها ممارسة إلى المجتمعات الأخرى وينشر السلام والخير والاطمئنان بين الناس جميعا ويوظف هذا الجو الطاهر لترسيخ ونشر توحيد الله سبحانه وتعالى وأنه لا إله إلا هو الحي القيوم من خلال الآفاق ، ويعطيه مصداقية من الواقع الذي نعيشه ، ومن ثم نطبق أمر الرب الشرعي الحدودي بأن لا نتجاوزه أبدا ، وأن لا نعبد إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33)
اضف تعليقا