علاقة النص الرسالي مع الواقع المتغير

إن الرسالة الإلهية كونها موجهة إلى المجتمعات الإنسانية قاطبة عبر الزمان والمكان وهي رسالة جامعة ومكملة لما قبلها كان من الطبيعي أن تتصف بصفات المجتمع الإنساني نفسه من حيث الثبات والتغير، وتحقق ذلك باختلاف بنية التشريع الاجتماعي للرسالة عن التشريعات السابقة. إذ كانت الرسالات السابقة عينية في تشريعها و زمكانية في توجهها، أما الرسالة الكاملة الجامعة فلقد نزلت ابتداء إنسانية عالمية متجاوزة في خطابها الزمان والمكان لتستوعب كل الأمكنة مع اختلاف المجتمعات وتطورها، وهذا يقتضي أن تكون صفة التشريع صفة حدودية وليست عينية، أي يأتي التشريع ثابتاً كحدود تشريعية غير مرتبط بالزمان والمكان وغير موجه إلى مجتمع معين وليس للتطبيق بعينه وإنما هو خطوط حمراء غير مسموح تجاوزها مع السماح باختيار الحل المناسب  للظرف الراهن ضمن هذه الحدود.

فالنص الإلهي مرتبط بالواقع كون الواقع محلاً للنص وسابقاً عنه في الوجود، وبما أن الواقع – آفاق وأنفس – وصل إلى مرحلة الاستقرار على نظام واحد قائم على الثابت والمتغير وانتفت عنه عملية النسخ اقتضى نزول نص جديد يكون مكملاً وجامعاً لما سبق متصفاً بصفات الواقع نفسه من حيث الثبات والتغير والاستمرار معه بخط واحد، ويكون دور الإنسان مع النص الثابت مثل دوره مع الواقع الثابت تماماً، فالإنسان الذي يكتفي بعرض جسمه تحت أشعة الشمس ليحصل على الدفء هو إنسان اكتفى بالحد الأدنى للتعامل مع الواقع الثابت، أما الإنسان الذي يقوم بدور الخلافة في الأرض ويقوم بتفعيل طاقاته المعرفية من خلال السير في الأرض تفكراً ودراسة فإنه يقوم بعملية إنتاج متغير جديد من الثابت الواقع نحو جعل أشعة الشمس طاقة حرارية وهذه العملية الجعلية المتغيرة كانت ضمن الثابت واستخدامه، ولذلك قلنا إن الثابت ينتج عنه المتغير، والمتغير يدل على الثابت.

وهذه العملية الجعلية المتغيرة هي نفسها نتعامل بها مع النص الإلهي الثابت، فمن يقف على ظاهر النص يكون قد أخذ بالحد الأدنى للتفاعل وبأبسط صوره ويحصل على مجتمع بسيط بدائي غير متطور، أما الذي يقوم بالتفاعل مع النص فإنه يحركه من ثباته الظاهر ويجعله ينتج عنه المتغير الذي يناسب المتغير من الواقع ومن هذا الوجه فالنص الرسالي الثابت مثله مثل الواقع الثابت تماماً من حيث كمونهما على متغيرات لا متناهية ومتروك للإنسان الخليفة أن يتفاعل مع هذه المتغيرات ويكتشفها ويسخرها لمصلحته، وكل ذلك ضمن الثوابت في الواقع والنص الإلهي.

إذاً ليست العبرة بمسألة قدم الشرع أو حداثته من حيث الوجود، وإنما العبرة بصلاحية هذا الشرع وملاءمته للطبيعة الإنسانية والاجتماعية، فمن يستطيع أن يضع تشريعاً حدودياً أحسن مما أنزل الله عز وجل فإنه يفرض تشريعه على الواقع من جراء الأحسنية وتحقيق المنفعة للناس جميعاً.

وكذلك ليست العبرة بالتقيد بالشرع الإلهي الناحية الإيمانية وحسب وإنما المعتمد الذي يفرض نفسه على الناس آمنوا أم لم يؤمنوا إنما هو موافقة هذا الشرع لسنن الفرد والأسرة والمجتمع أثناء حركتهم وتفاعلهم مع بعضهم ومع الآفاق لتحقيق الأمن والسلام البيئي والاجتماعي وتطبيق العدل والإحسان بين الناس جميعاً لينعم الناس بأكبر حظ من السعادة وتحقيق الذات، وبناء على ذلك نجد المجتمعات المعاصرة الجاهلية من حيث الفكر والقيم بعد الدراسة والمعاناة وطول الزمن وانتشار الفساد تصل إلى إيجاد علاج لبعض مشكلاتهم يتوافق مع التشريع الإلهي، ومرد ذلك ليس الأخذ من التشريع الإلهي سراً، وإنما لأن الواقع – آفاق وأنفس – أجبرهم على الوصول إلى هذا الحل كونه متوافقاً ومنسجماً معه، وكون الحل منسجماً مع الآفاق والأنفس فإنه يكون الحكم الشرعي نفسه لأن الواقع والنص كليهما من مصدر واحد والانسجام بينهما ضرورة إيمانية.

فالمجتمعات البشرية إذا استخدمت العلم وأرادت لنفسها الأمن والسلام لتعيش بسعادة على الأرض فإنها سوف تصل إلى الإقرار بصحة وأحقية شرع الله ويصبح الدين والعلم واحداً.

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت 53).

ولكن المجرمين يمنعون وصول هذه الحقيقة إلى عامة الناس ويقومون بالتعتيم والتشويش عليها وتغطيتها ليستمر استبدادهم في السلطة والثروات واستعباد الناس ثقافة وطاقة ، ويرسخون إن الدين تخلف وإرهاب وإجرام.

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (النمل 14).

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } (العنكبوت 39).