مناقشة الاجماع عند الشافعي

مناقشة الإجماع عند الشافعي لقد اخترتُ الإمام الشافعي لأهمية كتابه ((الرسالة)) بين سائر الكتب، ولأسبقيته عليهم. ويكفي أنّ الإمام الشافعي – رحمه الله-، أول من دوّن علم الأصول كما قرر العلماء. وكلُّ من يكتب في هذا الصدد يرجع إليه دراسة وتمحيصاً، وقد لاقى كتاب ((الرسالة)) للشافعي رواجاً عند العلماء والطلبة، واستحسنوه وعدّوه مرجعاً لا غنى عنه أبداً. لذا رأيتُ نقل تعريف الإجماع، من نصين للشافعي ومقارنتهما ببعضهما، وإخضاعهما إلى دراسة تحليلية موضوعية.

النص الأول: قال الشافعي رحمه الله، في كتابه ((الرسالة)): لست أقول ولا أحد من أهل العلم، هذا مجمع عليه إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات، وتحريم الخمر..وما شابه ذلك.

النص الثاني: قال الإمام الشافعي: ليس لأحد أنْ يقول في شيء حلال، ولا حرام، إلا من جهة العلم، وجهة العلم إمّا نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس .

فإذا أخذنا النص الأول، وتمعنا بقول الشافعي: [ لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله ]. نجدُ صراحة أن الأمر هو من باب الرواية، والحكاية عمن سبق، وليس من باب النظر والتفكر والاجتهاد، وهذا ما أكده بالمثل الذي ضربه عندما قال: [ كالظهر أربع ركعات..]. فقطع بذلك الشك، وحصر المراد بمصطلح الإجماع: بأنه نقلٌ، وحكاية الأحكام الشرعية الثابتة بالتواتر؛ لأنه من المعلوم أنّ الصلاة، وعدد ركعاتها جاءَ بالتطبيق المتواتر عن النبي إلينا، وحجيتها ناتجة عن ثبوت ممارسة الأمر قطعاً. ووجوبها جاء من النص القطعي بالقرءان وليس من إجماع العلماء فيما بعد. فالحجة في النص، وليس فيمن رووا النص.

وعدمُ اختلاف العلماء إلى يومنا المعاصر بذلك. أي: بوجوب الظهر، أو عدد ركعاتها، ناتج عن ثبوت النص بشكل قطعي، وقطعية دلالته. مما أدى إلى اتفاق الأمة على ذلك، وصار الأمر من المسلمات والثوابت إلى يوم الدين.

ولذلك من الخطأ والتدليس أن نقول: أجمع العلماء على أن صلاة الظهر أربع ركعات، والصواب أن نقول: إن صلاة الظهر أربع ركعات، ثبت ذلك بالتطبيق المتواتر عن النبي، وليس بإجماع العلماء؛ لأنّه يُوهم أنّ الأمرَ ليس بالسنة ، وإنما باتفاق العلماء على ذلك.

وإذا أخذنا النص الثاني للإمام الشافعي، وجدنا أنّه أفرد للإجماع مرتبة مستقلة عن الكتاب، والسنة، وجعله في المرتبة الثالثة. فإذا أخضعنا هذا النص للتحليل والدراسة نجد أنه متناقض مع النص الأول؛ لأنّ الإمام الشافعي في النص الأول، جعل الإجماع حكاية ورواية للحكم الشرعي بشكل متواتر. أي سمّى الخبر المتواتر إجماعاً، وليس مصدراً غير الكتاب، والسنة أبداً. وإنما هو نقلُ أحكام الكتاب والسنة بالتواتر. بينما نجده في النص الثاني قد أفرده بمرتبة مستقلة كمصدر ثالث، ولا يحتمل كلام الشافعي غير ذلك أبداً؛ لأنه لا يُعقل أن يكون قصده بالنص الثاني ما قرره الأول، أي التواتر للخبر أو التطبيق؛ لأنّ ذلك ليس مصدراً ، وإنما هو قناة يصل من خلالها الكتاب والسنة، وكونه أفرد الإجماع بالمرتبة الثالثة، علمنا قصده من ذلك، ألا وهو اتفاق علماء الأمة في زمن معين على مسألة لا نص فيها بأنّ حكمها كذا؛ لأنّه لو كان هناك نص لما كان هناك حاجة للإجماع لأنّ الحجة بالنص دائماً. وهذا ما قرره الشافعي نفسه من خلال ترتيبه للمصادر الشرعية؛ إذ قال: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس.

وبعد عرض ودراسة النصين للشافعي، يظهر لنا تخبطه وتناقضه في تعريف الإجماع، لظروف وملابسات الله أعلم بها. ولسنا في صدد دراستها، ولكنّي أنوّه إلى مسألة هامة يُلاحظها كلّ من يتمعن في أصول الشافعي، أنّه انطلق في التقعيد والتأصيل من قاعدة: [ لا مشرع إلاّ الله ]. وقاعدة: [ إذا وجد الأثر بطل النظر]. وعلى ذلك فلا يحق لأحد أن يشرع سواء كان فرداً، أم جماعة. ومن هذا المنطلق رُفض الإجماع الاجتهادي. وهذا الذي ذهب إليه الشافعي قرره الإمام ابن حزم أيضاً في كتابه: ((الإحكام))؛ إذ قال: [ لا إجماع إلا على نص ].

بل زاد أكثر، فنفى القياس العقلي، وأثبت القياس الشرعي، ولكن لم يسمَّه قياساً؛ لأنه في الحقيقة ليس كذلك. وإنما هو تطبيق لمتضمنات النص الشرعي، وبالتالي فلا دور للعقل أبداً. فكلاهما متفقان على أنّ الإجماع هو نقلُ الخبر بالتواتر، وسموا ذلك إجماعاً!.

ولكن نتفاجأ عندما نجد الشافعي يقرُّ الإجماع الاجتهادي في محل آخر من كتابه، فما موقف الشافعي من الإجماع؟. فالذي ظهر لي بعد التمعن في النصين، أن الإجماع الاجتهادي الذي نفاه الشافعي في النص الأول، إنما هو في الأمور التوقيفية، وهذا ظاهر من خلال المثل الذي ضربه عندما قال: [ كصلاة الظهر أربع ركعات..]؛ فمن المعلوم أنّ العبادات توقيفية، فهذه المسائل غير خاضعة للاجتهاد، وبالتالي تبقى من باب الرواية والحكاية.

أمّا المعالجات المتعلقة بالسلوك الإنساني الواعي، فلا بدّ من الاجتهاد فيها، لذلك نجده قال بالإجماع كمرتبة ثالثة، بعد الكتاب، والسنة، ويبقى الموضوع مشكلاً. وعلى أي حالٍ سواء كان الشافعي يقرُّ بالتعريف الأول، أم بالثاني. سوف نناقش الاثنين في الأوراق اللاحقة.

والشاهد من نقاش الإجماع عند الإمام الشافعي، هو حضُّ طلاب العلم بأن يتناولوا إنتاج العلماء كمجهود إنساني قابل للخطأ وللصواب. ولا يقفوا أمامه مبهورين ينظرون إليه بقدسية، ويترحمون على من كتب ذلك مكتفين بالحديث عن سيرة الأئمة، وكم كان سنهم عندما حفظوا القرآن، والحديث، والشعر والنحو، وما شابه ذلك. وأين نحن منهم، فهذا تثبيط لهمم طلاب العلم،ونشر بينهم فكرة أنّ السلف لم يترك للخلف شيئاً أبداً، ((عليكم بالعتيق والقديم)). وأمثال هذه الأفكار الاستعمارية التي تريد من الأمة أن تبقى متخلفة متقوقعة لا تعيش الحاضر أبداً.

لقد آن الأوان لأن نقول: كم ترك الأولون للآخرين والآن جاء دورنا لنبني مجدنا، ونشيد صرحاً فكرياً علمياً، نتركه تراثاً لمن بعدنا، ليدلوا بدلوهم، ويعيشوا زمانهم. وهكذا نتوارث العلوم والتجارب، لنختزل الزمن، وننزع عنّا لباس الذل والجوع، والظلم، ونعيش بحرية وسلام مطمئنين.

نعم آن الأوان لنشمّر عن ساعد الجدَّ، ونبدأ بالفكر والتفكّر والدراسة، لنعرف من نحن، وفي أي زمن نعيش، وما هي الرسالة التي نحملها للإنسانية جمعاء؟.

وحقيقة هذه التعاريف كلها ترجع إلى أربعة تعاريف فقط ، وهي العمدة في البحث:

نقاش محل انعقاد الإجماع:

الأول: إجماع الصحابة على أن الحكم الشرعي للمسألة، هو كذا. نقلوا الحكم دون النص.

الثاني: إجماع أئمة آل البيت على الحكم الشرعي للمسألة، هو كذا. نقلوا الحكم دون النص.

الثالث: إجماع علماء الأمة في عصر من العصور على مسألة من المسائل الدينية الاجتهادية، أن حكمها الشرعي كذا.

الرابع: إجماع الأمة على نقل الحكم الشرعي بشكل متواتر.

وما سوى ذلك من التعاريف، كإجماع أهل المدينة، أو أهل الكوفة، فهما متضمنان تحت إجماع علماء الأمة، بينما إجماع الخلفاء الراشدين متضمن تحت إجماع الصحابة، وهكذا. فلذا لن نتطرق إليهم لدخولهم تحت هذه التعاريف الأربعة، ويجري عليهم من القول ما يجري على الأربعة.

ولنناقش كل رأي من الآراء الأربعة على حِدَة، ونبدأ:

1ـ بإجماع الصحابة، فقد قالوا في تعريفه:

(إن إجماع الصحابة يرجع إلى نفس النص الشرعي، فهم لا يجمعون على حكم إلا وكان لهم دليل شرعي، من قول الرسول ، أو فعله، أو تقريره. قد استندوا إليه فيكون إجماعهم قد كشف عن دليل شرعي، وهذا لا يتأتى لغير الصحابة؛ لأنّهم هم الذين شاهدوا الرسول عليه السلام، وعنهم أخذنا ديننا. فكان إجماعهم هو الحجة، وما عداهم ليس بحجة.

إذاً ؛ الصحابة ما أجمعوا على شيء إلاّ ولهم دليل شرعي على ذلك. لم يرووه. فيكون إجماع الصحابة دليلاً شرعياً بوصفه يكشف عن دليل وليس بوصفه رأياً لهم. فاتفاق آراء الصحابة على أمر لا يعد دليلاً شرعياً، وإجماعهم على رأي من آرائهم لا يعد دليلاً شرعياً. بل إجماعهم على أنّ هذا الحكم حكم شرعي، أو على أنّ الحكم الشرعي في واقعة كذا هو كذا، أو أنّ حكم الواقعة الفلانية شرعاً هو كذا، هذا الإجماع هو الدليل الشرعي. فإجماع الصحابة المعتد به ؛ إنما هو الإجماع على حكم من الأحكام بأنه حكم شرعي، فهو يكشف عن أنّ هناك دليلاً شرعياً لهذا الحكم رووا الحكم ولم يرووا الدليل)( ) .

وعلى هذا الكلام مؤاخذات جمة:

1 ـ إيهام القارئ بأنّ الإجماع مصدر غير الكتاب، والسنة، وهو ليس كذلك عندهم.

2 ـ ما أطلقوا عليه اسم الإجماع هو في الحقيقة باعترافهم، نقلٌ لمعنى، ومدلول النص دون اللفظ. بغض النظر كيف ينقل ذلك عن الصحابة، سواء كان بشكلٍ متواتر أم آحاد.

3 ـ تسليمهم بإمكانية اندثار النص، وبقاء الحكم.

4 ـ اتفاق الصحابة على إهمال رواية النص.

وكما هو واضح بشكل جلي من قولهم السابق: ((رووا الحكم ولم يرووا الدليل)) أنّ مسألتهم هي بمثابة النقل للنص بالمعنى دون اللفظ بشكل متواتر، وسموا ذلك إجماعاً مجازاً، وأضافوه للمصادر الشرعية اللذين هما الكتاب، والسنة، كمصدر ثالث ولكنْ بشكل صوري فقط؛ إذ هو بعد التحقيق ما هو إلا نص شرعي، ولذلك عُومل معاملة النص من حيث التخصيص للقرآن، والنسخ للحديث النبوي وما شابه ذلك؛ لأنّه عندهم هو نص شرعي كغيره، وهذا تدليس ما بعده تدليس، فلماذا أفردوه وحده؟ وأوهموا الأمة أنه غير الكتاب، والسنة وعدّوه مصدراً ثالثاً؟. وبعد جلاء الحقيقة وفهم قول من يقول بحجية إجماع الصحابة حصراً، وتبين أنّ ذلك لا يسمى إجماعاً، وإنما هو بمثابة النقل المتواتر للنص الشرعي، ولكن بالمعنى دون اللفظ ، وهذا أمر معروف في علم الحديث، نعلم أنه لا إجماع عند هؤلاء بالمعنى المطروح الذي هو الإجماع الاجتهادي لا للصحابة، ولا لغيرهم من أمة محمد ، وكلهم أمام شرع الله سواء.

بيدَ أن هناك أمر وهو على درجة من الأهمية، ألا وهو تسليمهم بإمكانية اندثار النص الشرعي مع بقاء حكمه. فكيف يتأتى بقاء الحكم مع ذهاب الوعاء الذي يحفظه، ويوصله للآخرين، ألا وهو اللفظ.

وقد ردّ هذه الشبهة الإمام ابن حزم بشكل مطول في كتابه الأصولي( )؛ حيث قال: ((لا إجماع إلاّ على نص. وذلك النص: إما كلام منه عليه السلام، فهو منقول ولا بدّ محفوظ حاضر. وإمّا عن فعل منه عليه السلام، فهو منقول أيضاً كذلك. وإمّا إقراره فهي أيضاً حال منقولة محفوظة)). وهذا طبيعي؛ لأنّ الله – سبحانه – تعبدنا بأوامر ونواهي، وهذا يقتضي حفظها واستمرار وجودها إلى ما شاء الله تعالى.

2 ـ أما الإجماع عند الشيعة، فلقد قالوا إنه: كشف عن قول المعصوم ينقل بشكل متواتر( ). واستدلوا عليه بقوله تعالى: ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) [ الأحزاب:33]. ومن خلال تعريفهم، نعلم أنّ الإجماع عندهم شكل لا مضمون له؛ إذ ليس هو بمثابة الإجماع الاجتهادي، وإنما بمثابة النقل لرأي الإمام المعصوم في المسألة دون لفظه. فيكون بذلك من باب الرواية للسنة بالمعنى، وبذلك انتفى الإجماع الذي هو محل الخلاف؛ لأن رأيهم صراحة متطابق مع من قال بإجماع الصحابة، ويختلف في أنهم جعلوا كشف الدليل قائماً في أهل البيت من الصحابة، واستمر ذلك الكشف للفروع من أهل البيت بعد وفاة النبي ، ولا غرابة في ذلك ؛ لأنّ الإمام عندهم معصوم، فقوله سنة بذاته سارية المفعول، ولسنا في صدد مناقشة عصمة الأئمة فهي مسألة( ) متصادمة مع الواقع الإنساني.

بقي قولهم: إن الإجماع هو كشف عن دليل لم يُنقل إلينا، وإنما نُقل فحواه بشكل متواتر.

وهذا الكشف لا يتأتى قطعاً إلا لمن عاصر الرسول. وبذلك يخرج فروع أهل البيت فيبقى الأصول من أهل البيت، وهم من الصحابة ينطبق عليهم ما ينطبق على الصحابة من أحكام. وبذلك نعلم فساد استدلالهم بنص الآية السابق؛ لأنّ دلالة الآية ليس فيها ما ذهبوا إليه من استدلال، وإنما كل ما فيها هو أنّ الله – سبحانه – يريد أن يُذهب الرجس ؛ الذي هو الريب، والافتراء، والطعن، وما شابه ذلك عن أهل البيت ، الذين هم أزواج النبي ابتداء، وخاصة أنّ الآية جاءت في معرض الكلام على نساء النبي ، وذلك بقوله تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً ، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرح الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) [ الأحزاب:32 ـ 33]. فلا معنى لتحميل الآية ما لا تحتمله؛ إذ لا دلالة فيها لا من قريب، ولا من بعيد على حجية إجماع أهل البيت ؛ لا الأصول الذين صحبوا النبي ، ولا الفروع الذين جاءوا بعد وفاة النبي ، وكل ما في الأمر، أنّ أهل البيت من الصحابة لهم ما للصحابة من أحكام الرواية، وكذلك الذين بعد وفاة النبي ، فلهم أيضاً كباقي العلماء المسلمين من حيث الرواية، والدراية، ولا حجة لأحد في قوله بذاته، ما منا إلا ويُؤخذ من قوله، ويُرد عليه إلا المعصوم وهو الرسول حصراً.

3 ـ الإجماع عند الجمهور: هو اتفاق علماء الأمة في عصر من العصور على حكم مسألة دينية اجتهادية، أن حكمها الشرعي كذا.

واستدلوا على هذا الإجماع، بقوله تعالى: ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )[ النساء:115].

وبقول النبي: ((إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة))( ).

وقد ردّ الإمام الغزالي هذه الحجج، في كتابه ((المستصفى)) فقال ما ملخصه: لا حجة في دلالة الآية السابقة؛ لأنّها ظنية الدلالة ؛ والأقرب للصواب في دلالة الآية، هو أنّ الهدى المذكور يقصد به التوحيد، والإيمان بالله، وليس الفروع من الأحكام الشرعية. وعكس الهدى هو الضلال ومعنى الآية هو: ومن ينحاز عن الرسول من بعد ما آمن ؛ وتبين له التوحيد والإيمان إلى صف الكفر، ويدخل تحت لوائهم، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً.

وكذلك قال في الحديث النبوي السابق، وإنه لا حجة فيه على إجماع العلماء؛ لأنه ظني الثبوت، ومسألتنا مسألة أصولية تحتاج إلى القطع في الدليل، ناهيك عن أنه ظني الدلالة؛ لأن لفظة الضلالة في الحديث يُقصد بها الكفر والشرك ، الذي هو ضد الهدى ، فلا يمكن أن تجتمع الأمة كلها على ترك دين الله – سبحانه وتعالى -، والكفر به، بل لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم الدين( ).

4 ـ إجماع علماء الأمة على نقل الحكم الشرعي بشكل متواتر.

وممن ذهب إلى ذلك الإمام ابن حزم في كتابه ((الإحكام)) فقال: لا إجماع إلا على نص، وأيده ثلة من العلماء بعده كالشوكاني، وأحمد شاكر من المعاصرين وغيرهم.

وهذا الإجماع في الحقيقة أيضاً تدليس؛ لأنه شكل لا مضمون له، فليس هو الإجماع الذي عدّوه مصدراً شرعياً، وليس هو محل البحث والخلاف؛ لأنهم صرحوا أنه نقل متواتر للنص الشرعي، وهو من باب الرواية، وليس من باب الاجتهاد فتسميته إجماعاً مغالطة، أشبه بأختها السابقة التي هي إجماع الصحابة على نقل وتطبيق لمعنى نص شرعي مفقود؟!.

ومسألتنا نقلٌ وتطبيق للمعنى واللفظ لنص موجود، فتأمل!.

وكونها خرجت من الإجماع الذي هو محل الخلاف؛ كفى الله المؤمنين القتال؛ لأنه إذا وُجد الماء بَطُل التيمم، والحجة في النص وليس فيمن رووا النص؛ سواء كانوا متواترين، أم آحاداً. فليس هم محل فقه النص ؛ وإنما النص ذاته هو الحجة، وما الرجال إلا وسيلة لتوصيل النص.

هذا جانب للمسألة، أمّا الآخر: فإن النص إذا جاء بشكل متواتر، ولكنّه ظني الدلالة ؛ واتفق العلماء على اختيار معنى من المعاني المحتملة، لا يعني ذلك نفي الدلالة الظنية عن النص. ولا يعني أيضاً إلزام الأمة لاحقاً بالفهم الظني المختار من قبلهم، ولا يعني رفع احتمال الخطأ برأيهم لأنهم اجتمعوا. فما هم إلا مجموعة من الرجال ، وينطبق عليهم ما ينطبق على الفرد من الخطأ والنسيان؛ لأن مجموع المحدودات ؛ محدود بداهة مهما كثرت المحدودات.

ولا يصح الاستدلال بالحديث السابق لأمرين:

الأول: مسألتنا مسألة أصولية، ويلزمها دليل قطعي، والحديث ظني الثبوت( ).

الثاني: الحديث ظني الدلالة، كما تقرر ولم تصح لفظة /خطأ/ عوضاً عن الضلالة في الحديث. كما قرر أهل العلم بالحديث( ).

لذا ، إجماع العلماء على معنى من معان النص لا يخرج ذلك عن كونه رأياً اجتهادياً جماعياً ينطبق عليه ما ينطبق على الرأي الاجتهادي الفردي سواء بسواء.

وبعد هذه الجولة السريعة في تراثنا، ودراسة مسألة الإجماع. علمنا أنّ الإجماع في الشرع الإسلامي الذي مارسه الصحابة الكرام حينما بايعوا أبا بكر خليفة، وحينما جمعوا المصحف وما شابه هذه الأمور المتعلقة بمصلحة الأمة، والعناية بها. أن الإجماع إنما هو إجماع سياسي، مرتبط بالظروف والزمان والمكان، تأخذ به الدولة حين وضع التشريع؛ لأنه بمثابة رأي الأمة وعلمائها وليس فيه صفة الاستمرار والديمومة؛ لأنه اجتهاد جماعي منبثق من ظروف معينة، وَوُضع لمعالجة واقع، لذا ، ينبغي إعادة النظر في التشريع كل فترة زمنية معينة ، والتشريع الذي يُجمع عليه علماء الأمة، ويتبناه الحاكم يصير مُلزماً للأمة، ويجب تطبيقه؛ لأن أمر الإمام نافذ؛ وطاعته واجبة، ولكل زمان دولة ورجال.