تحليل كلمة الاجتناب في القرءان

جَنْب: أصلان متقاربان، أحدهما الناحية، والآخر البُعْد. «مقاييس اللغة».

إن المُتتبِّع لاستخدام القرآن لكلمة (الاجتناب) يجد أن استخدامها – دائماً – يأتي بسياق التعليم والتوجيه، ولا يأتي بسياق التشريع لحُكْم شيء أبداً، وأيّ موضوع جاء الأمر باجتنابه، فقد سبق ذِكْر بطلانه، أو حُرمته، أو النَّهْي عنه في نصوص أخرى، لنرَ ذلك من خلال سَرْد الآيات التي استخدمت كلمة (الاجتناب):

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسولاً أَنِ اعْبدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبواْ الطَّاغُوتَ }

(النحل 36).

نلاحظ في النصّ أن كلمة (اجْتَنِبواْ) لم تأتِ لتُعطي الحُكْم على الطاغوت بأنه حقّ،

أو باطل، وبطلان الطاغوت أمر مُدرَك بالعقل والنقل، كما أن توحيد عبادة الله – أيضاً – مدرك بالعقل، والنقل.

فالنصّ تعليمي وتوجيهي يأمر بتوحيد عبادة الله، واجتناب الطاغوت.

{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (الحج 30).

الأوثان جمع (وَثَن)، وهي تدلُّ على القوة، والكثرة، وأُطلقت على كلّ ما يُعبَدُ من دون الله، نحو الحجارة، وغيرها، وذلك لإضفاء صفة الألوهية على هذه التماثيل والأصنام، بشكل، أو بآخر، وبمعنى آخر: أعطوا صفة القوة والقدرة على التصرّف والتحكّم بالوجود لهذه التماثيل، أو لجهة معيّنة من البشر؛ نحو: فرعون، فكلّ مَنْ يُعتقَد به أنه يملك القوة والقدرة على التصرّف بأمور الخَلْق، وأن الضرر والنفع بيده، فهو وَثَن، سواء كان من الحجر، أم البشر.

فالنصُّ يأمر باجتناب هذه القوى الباطلة، التي تستعبد الناس، وليس كلّ مَنْ يملك القوة يستعبد الناس، لذلك جاءت كلمة (الرِّجْسَ)، وهي تدلُّ على الاختلاط في الشيء بين الفساد والصلاحية، وغلبة الخُبث على الطهارة؛ لتُحدّد أن الوَثَن منه ما هو رجس (خبيث)، ومنه ما هو طاهر، ومن ثمَّة؛ فلا مانع من الاقتراب والتعامل مع القوى الطاهرة التي تحترم الإنسان، وحقوقه، بخلاف قوى الباطل، فإنها رجس من الأوثان يجب اجتنابها.

وكذلك بالنسبة للتماثيل والأصنام، فيمكن أن تصير وَثَنَاً؛ وذلك بإعطائها مفهوم الألوهية بشكل، أو بآخر، نحو: تمثال (بوذا)، فأمر الشارع باجتناب هذه الأوثان، وعدم بيعها، وشرائها، أو صنعها، وعدم صَمْدها في البيوت، والمحلات، والأماكن العامة؛ لأنها رجس.

أمَّا قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحج 30)؛ فلا يدلُّ على حُكْم الكذب، والميل عن الحقّ، الذي هو دلالة كلمة (الزُّورِ) فإن حُكْم الكذب جاء بنصوص أخرى، وكذلك حُكْم شهادة الزور، جاء بنصّ آخر، انظر قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } (الفرقان 72).

فنلاحظ أن كلا الأمرَيْن بالاجتناب للرِّجس من الأوثان، ولقول الزور، إنما هو تعليمي، وتوجيهي، وليس بياناً لبطلان الأوثان، أو بياناً لحُكْم قول الزور.

كما أننا نلاحظ أن الاجتناب جاء متعلّقاً بشيءٍ معروف أنه باطل، وبشيء مَنْهي عنه سابقاً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة 90).

إن الخمر والميسر قد جاء الحُكْم بالنَّهْي عن تناولهما بنصّ آخر؛ وهو {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } (البقرة 219).

وكذلك بالنسبة للأنصاب، والأزلام، وقد مرَّ شرحها سابقاً.

فالأمر بالاجتناب في النصّ أتى متعلّقاً بكلمة (الرجس)؛ لأن ضمير الغائب في كلمة (فَاجْتَنِبُوه) جاء مفرداً، ويرجع لأقرب مذكور قبله، ولم يأتِ بياناً لحُكْمهم، وإنما توجيه وتعليم متعلّق بأمر آخر، يحذِّر الله منه، وهو عمل الشيطان، وقد مرَّ شرح ذلك أيضاً، انظر قوله تعالى، دليلاً على ما ذكرتُ من أن الاجتناب دائماً متعلّقٌ بأمر باطل، أو حرام، أو مَنْهي عنه سابقاً، وهذه الآيات أمثلة على ما نقول:

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً }النساء 31).

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } (النجم 32).

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } (الزمر 17).

إذاً؛ كلمة (الاجتناب) في الاستخدام القرآني لا تأتي لابتداء حُكْم تشريعي، أو بيان بطلان الأمر في الواقع، وإنما تأتي تعليماً وتوجيهاً، وهي متعلّقة بأمر حرام، أو مَنْهي عنه، أو باطل في الواقع دائماً، أو يمكن أن يصل إلى الإثم؛ فهذه الأمور هي محلّ تعلُّق الأمر بالاجتناب، وبمعنى آخر، إنَّ أيَّ أمر من الشارع بالاجتناب لشيء، فهو حرام، أو مَنْهي عنه، أو باطل، أو يُوصل إلى الإثم أصلاً.