النفس كائن جني

وبناء على معطيات الواقع، ودراسة النّص كمنظومةواحدة، منسجمة مع الواقع، نصل إلى أنَّ النّفس، هي كائن جني موجود في الجسم البشري، وهي المسؤولة عن قيادة هذا الجسم، وهي التي تتمتع بوُجُود واعي عاقل، وهي التي تُميز شخصية الإنسان وهويته عن الآخر؛ أي أن القرآن قد ذكر المادَّة التي تم خلق البشر منها، وذكر المادَّة التي تم خلق النّفس منها.

فبداية خلق الإنسان – قديماً في أول نشأته حيث لم يكن إنساناً بعد- من طين، وهذا الذي تكلم عنه الخالق في نص آخر بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ }المؤمنون12،لاحظ الفعل الماضي (خلقنا) مع الانتباه لنوعية الضمير ودلالته( نا)، وهذه المرحلة الطينية متعلقة بالكائن البشري، اقرأ قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ }ص71.

لاحظ الفرق بين كلمة  ( وبدأ خلق الإنسان من طين) وكلمة(إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ) ، وهذا يدل على أن الإنسان في  أصله السابق البشري من طين، أما الوضع الحالي فهو من سلالة من ماء مَهين. اقرأ قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَالْإِنسَانِ مِن طِينٍ }{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ} (السّجدة 7 ـ 8)، وانتبه إلى حرف( ثم) ، ودلالة كلمن( خلق وجعل).

وأحياناً يذكر الخالق صفات للإنسان معنوية أوعلاقات سننية، وليست مادية نحو:

{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ }الأنبياء37.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }الحجر26

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} الحجر28

والحمأ : هو الحركة المؤرجحة الشديدة المجتمعة على بعضها اتصالاً لتظهر بصورة خفيفة أخيراً. وفي الواقع هي وصف لطاقة حرارية  متداخلة في بعضها ثائرة لتجتمع أخيراً وتظهر بمظهر واحد.

المسنون: الجمع المتصل المتحرك بحرية لينضم بامتداد ينتهي بستر.

وهذه الكلمة من( سن) التي تدل على الحركة الحرة المستورة.

والكلمتان ( حمأ مسنون)تُشكلان مفهوم العلاقات المؤرجحة الشديدة المستورة التي تحكم خلق الإنسان(نفس) والبشر(جسم حي).

ونصل الآن إلى النص الذي هو محل البحث:

قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ*وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } (الرّحمن 14 ـ 15).

وذكر كلمة الإنسان  ـ  في النّص ـ  من باب الأصل؛ إذ من المعلوم أنَّ الإنسان وُجد من خلال التّكاثر، والولادة من ماء مَهين، وليس من طين، والنص يصف الإنسان أنه خُلق من صلصال ، فماذا تعني ؟

صلصال:كلمة تدل على الحركة المحددة اللازمة البطيئة المكررة أيضاً بذات الحركة المحددة الممتدة بصورة بطيئة لازمة.

وهذا المفهوم تحقق في النفس من خلال مزج الطاقة الحرارية مع تقدير سنني(برنامج معلوماتي) وتحريكه بصورة لازمة، وتحقق في الجسم بعملية مزج التراب بالماء، وإعادة مزجهما إلى أن يصلا إلى مرحلة الطين اللازب المتماسك في ذراته ليُشكلا نسيجاً طينياً معجوناً متماسكاً منسجماً مع بعضه، وهذه العملية هي صفة لخلق الجسم البشري المتماسك في ذراته الأجوف الذي يحتفظ بالحرارة المناسبة له كالفخار، ولكنه ليس قاسياً مثله، و لا يفقد حرارته.

إذاً، القرآن لم يُهمل أصل مادَّة خلق النّفس، ولقد ذكر ذلك صراحة بأنها مخلوقة من مارج من نار(طاقة)، أي من خلاصة اختلاط واضطراب ألسنة النّار الصّاعدة الملتهبة، وصفة الجنية لازمة لها وليست عارضة مثلها مثل الملائكة تماماً.

وبذلك صار الإنسان كائناً ترابياً ونارياً بوقت واحد، أي جسم ونفس، وروح تحكمه.

ولأهمية موضوع خلق الجن، وكي لا يكون المفهوم التّراثي عقبة تمنع القارئ من قَََبول ما ذكرت عن خلق مادَّة النّفس، وأنها هي المعنية بكلمة الجانَّ في النص، ومن ثم َّ، فهي مخلوقة من مارج من النّار، كما أخبر الرّب في كتابه، اقتضى ذلك منّا، التّطرق إلى النّص القرآني التّالي:

{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَامَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ *قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } (ص75 -76).

وذلك لمساعدة القارئ في عملية الفهم الكلي للموضوع، من خلال المنظومات القرآنية والواقعية، وعدم اقتطاع أي جزء من المنظومة؛ لأن ذلك يُؤدِّي إلى الشّطط، والوهم في الفهم، والوُصُول إلى نتائج غير حقيقية.

وبناء على ما ذكرت، من أُطُرٍ للمنظومة، نفهم النّص المعني بالتّفسير من خلال وضعه في مكانه المناسب من المنظومة؛ حتَّى يكمل معنا المنظر الكامل للوحة، ولا نقع بالتّصادم بين الأجزاء، ولا نشوه الحقيقة.

 ـ أول أمر: ينبغي ملاحظته في النّص، أنَّ الكلام المعني بالدّراسة، إنَّما جرى على لسان إبليس، فهذا الكلام يعبر عمّا بداخل إبليس، وليس بالضّرورة أن يكون حقاً في الواقع؛ فالقرآن ذكره كخبر عمّا جرى على لسان إبليس وليس تقريراً لمضمونه.

ـ الأمر الثّاني: هو أنَّ النّص استخدم كلمة (بشر) في الآية{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ }ص71.

ولم يستخدم كلمة (إنسان)؛ ومن ثم، فالبشر قد تم خلقهم  ـ ابتداء  ـ  من حيث الأصل من طين.

ولما تكلم إبليس عن ذاته، استخدم الجانب المخفي فيه، وهي النّفس، فذكر أنها خُلقت من النّار.

فقد استخدم إبليس في جوابه، صفة التّدليس والتّغابي، لمَّا ذكر مادَّة خلق الجسم ـ  بالنّسبة لآدم  ـ  التي هي الطّين، وتغافل عن مادَّة خلق نفس آدم من النّار.

فقام بإغفال مادَّة النّار في خلق نفس آدم، وإغفال مادَّة الطّين في خلق جسمه، فقال: خلقتني من نار، وخلقته من طين؛ رغم أن كليهما مخلوقان من طين وناركإنسان(جسم ونفس)؛ ناهيك عن أن أصل النار هو من تراب وماء(طين) اقرأ قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِالْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} يس80، والشجر الأخضر يدخلفي بنيته التراب والماء، والحرارة والضوء والهواء ليصير في النهاية وقوداً للنار،اقرأ قوله أيضاً{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} الواقعة71_72، وكلمة (شجرة) تدل على العلاقات المتداخلة ببعضها (القوانين والتفاعلات)التي بموجبها يتم حدوث النار(طاقة) من عناصر في أصلها من التراب والماء(مادة)، ومن المعلوم أن المادة هي طاقة خامدة، والطاقة مادة متحولة، والعلاقة بينهما جدلية.

إذاً؛ أصل خلق الإنسان هو التراب والماء، فمن التراب والماء خُلق الجسم ( الكائن الرحمادي البشري)، ومن النار المُنشأة من التراب والماء بواسطة شجرتها(قوانين وعلاقات) خُلقت النفس من مارج من النار، وتم نفخ النفس في الجسم فظهر الإنسان محل الخطاب التكليفي، والذي جعله الله خليفة في الأرض كجنس يتمثل في الحاكم العالم العادل الذي يقود خلافة الجنس الإنساني وفق نظام الله السنني، و الحدودي في التشريع.انظر: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }ص26(1)

فالنفس هي طاقة متحولة عن المادة مرتبطة بها،وتظهر من خلالها، لذا؛ أخذت صفة الطاقة من حيث حركتها وبنيتها، واختلفت عنها بثباتها وعدم تحولها إلى مادة خامدة مرة أخرى بأمر من الرب.

لذلك نلاحظ أنَّ الرّب لم يستمر بالحوار مع إبليس رغم أنَّ القرآن يأخذ الحوار على محمل الجد؛ ذلك لأنَّ الفكرة التي ذكرها إبليس كسبب لعدم سجوده، هي فكرة واهية غبية،لا تخرج إلا من متكبر، حسود، حقود.

فأنهى الرّب الحوار بلعن إبليس، وذمه على طريقة تفكيره، وتناوله للأمور، بصُورة غبية، ورفضه السجود لآدم وتدليسه المكشوف لكل ذي رأي.

نحو أن يقول أحدهم متفاخراً على آخر: إن جسمي  فيه عظام، بينما جسم الآخر فيه اللّحم !.

أو أن يقول: إن دمي فيه كريات بيضاء، ودمك فيه كريات حمراء، وما شابه ذلك من أقوال غبية، لا تصدر إلا من قاصر أو من مكابر للحقيقة !.

لذا، لا يصح أخذ ظاهر هذا النّص ـ  مقتطعاً من منظومته ـ  وبناء مفهوم كامل عليه، بل ينبغي إرجاعه ووضعه في مكانه، من المنظومة، ضمن الأطر العامَّة التي تحكم اللّوحة.

ويتابع النّص القرآني، ذكر خلق النّفس بقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }  (النّساء 1).

تم خلق النّفس ابتداء من مارج من نار، ومن هذه النّفس الأولى  تم خلق زوجها، وكلمة ( زوج ) تطلق على الفرد من الزّوجين، فالواحد منهما زوج؛لأنه لا يمكن وُجُود أحدهما دون الآخر، ويشترط  الاختلاف في النوع، فالذكر والذكر ليسا زوجين، وإنما هما إثنين، وتطلق أيضاً على الاثنين المختلفين نوعاً معاً، { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }الحج5، فكلمة (زوج) في النص يقصد بها النوعين المختلفين، وبالتالي يكون مفهوم جملة(خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) هو أن النفس الواحدة خُلق منها الإثنين المختلفين بالنوع     (الزوجان) لا أسبقية لأحد على الآخر،أو تفضيل، والنفس لا تظهر إلا من خلال الجسم (ذكر أو أنثى)، ما يؤكد على أن النفس عندما دخلت الجسم انحكمت بنوعه الذكري أو الأنثوي.

وكلمة زوجان، لا تطلق إلاَّ على الاثنين اللّذين يُشَكّلان مع بعضهما حالة الانسجام، والتّلاؤم، والتّكامل في الوظيفة، فالذّكر والذّكر ليسا زوجين، وكذا الأنثى والأنثى ليستا زوجين، لعدم وُجُود تكامل بينهما في الوظيفة الحياتية، بينما الذّكر والأنثى زوجان؛ قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى } (النّجم 45)، ذلك لأنهما مع بعضهما، يقومان بدورهما، بصُورةتكاملية، منسجمة ومتلائمة مع منظومة الحياة، ومن ثم؛ فمقولة: إن الأنثى هي الأصل، أو الذّكر هو الأصل، كلاهما باطل، من حيث الواقع.

وبعد أن ظهر الزّوجان (الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) من البشر خلقاً على أرض الواقع، ونُفخت النّفس فيهما؛ تمَّ  بث الرجال والنساء(1)،(رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) وكلمة (البث) غير الخلق، فهي تدل على جمع مستقر مندفع بالتصاق، وفي الواقع ظهر بث الرجال والنساء بصورة  تحركهم واندفاعهم بتكتلات ملتصقة ببعضها بشكل جماعات سابقاً، ومجتمعات لاحقاً، انظر لبث الموجات الصوتية كيف تتم في الواقع،إذاً؛ ظهر مفهوم الرجال والنساء نتيجة حركة الإنسان بنوعيه الذكري والأنثوي في الحياة، فالرجال والنساء بَثّاً، وهو مفهوم اجتماعي، والذكر والأنثى خلقاً. أما الحيوانات فنطلق عليها وصف الذّكور والإناث فقط.

وظهرت الزّوجية في النّفوس من خلال الزّوجية في الأجسام، فكم اأن هناك ذكر وأنثى، يُوجد أيضاً رجل وامرأة، ليصير في الواقع انسجام، بين نفس المرأة  وجسمها الأنثوي، ونفس الرّجل وجسمه الذّكوري، ويظهران في الواقع متكاملين، منسجمين، نفسياً وجسمياً كزوجين، ومن هذا الوجه، ندرك بطلان دعوة المساواة بين الرّجل والمرأة؛ لاختلافهمانفسياً، وجسمياً، فطرة، ووظيفة، والعلاقةبينهما علاقة تكامل قائمة على الانسجام والتّلاؤم النّفسي والجسمي،  أما فيما يتعلق بالواجبات والحُقُوق؛ فلاشك أن كليهما يُشكلان الإنسان، وأي دراسة للإنسان، ينبغي أن تقوم على الدّراسة الزّوجية للرَّجل والمرأة، والذّكر والأنثى    ‑ معاً دون تفريق ‑ وأي استبعاد لأحدهما، فالدّراسة قاصرة وناقصة ومشوهة النّتائج.

وينبغي ملاحظة أمر هام  ـ  أثناء دراسة النّص القرآني ـ  وهو أنَّ الأصل في الخطاب الإلهي، إنَّما هو خطاب للجنس الإنساني، والتّخصيص بالأحكام لأحدهما دون الآخر سببه اختلاف المقام الاجتماعي (رجال أو نساء)، و نوعهما البشري (ذكر أو أنثى)، ويُعرف ذلك من وجود قرينة عقلية أو نقلية في سياق النص.

إن خلق النّفس، لم يمر بعملية التّطور، مثل الجسم، وإنَّما هو خلق مُباشر لنفس واحدة، ومنها تم نفخ النّفوس في الأجنة البشرية، في بطون أمهاتها، وذلك عند وُصُول الجنين، إلى مرحلة تسوية جسمه، وتعديله و تصييره كائناً بشرياً، عندئذ تُنفخ النّفس فيه؛ فيصير إنساناً. ومثل ذلك كمثل الشعلة من النار التي تؤخذ من شعلة أخرى، فنستطيع أن نأخذ عدد لامتناهي من الشعلات دون أن تتأثر الأولى، وكل شعلة هي صورة طبق الأصل عن الأولى.

لذا؛النظام الذي يحكم الجسم، والنظام الذي يحكم النفس ثابت فطرة، والإنسان هو الذي يحافظ على فطرته ويرتقي بها منسجماً معها، أو يتدخل بنظامها فيفسدها.