دلالة كَلمة النّساء في القُرآن


 هل استخدَم القُرآنُ كَلمة (نساء) جَمْعَاً لكَلمة (المرأة)؟أم لكَلمة (النّسيء)؟ أم لكلَيْهما؟!.
لنرَ ذلك من خلال سَبْر الآيات التي استخدمتْ كَلمةَ (النّساء):[ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ] البقرة 222 .[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ] النساء 3.[ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ] الأحزاب 32.
المُلاحَظ من النُّصُوص المذكورة سابقاً أنَّ كَلمة (النّساء) أتتْ جَمْعَ اًلكَلمة (المرأة)، وذلك بدليل سياق النَّصِّ نفسه.
ولننظر إلى نُصُوص أُخرى استخدمت كَلمة (نساء)، ونبحث في سياقها ونَظْمها عن المقصد من كَلمة (النّساء)، وعلى أيِّ جَمْع أتت:
ـ [ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ]آل عمران
إنَّ كَلمة (النّاس) في النَّصِّ القُرآني تدلُّ على عُمُوم الجنس الإنساني؛ سواء أ كان ذكراً، أم كان أُنثى، كافراً، أم مُؤمناً؛ نحو قوله تعالى: [قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ،إله الناس ]الناس 1-3 وقوله: [يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ]الأعراف
إذنْ؛ زُيِّن للجنس الإنساني (ذكر وأُنثى) حُبَّ الشّهوات، هذه أوَّل نُقطة في بحث النَّصِّ يجب تثبيتها، وعدم نَقْضها لاحقاً، واستصحابها أثناء تتمَّة دراسة النَّصِّ، فأوَّل شهوة ذَكَرَهَا النَّصُّ هي شهوة النّساء، فماذا يعني ذلك؟
الشّهوة: كَلمة تدلُّ على حُبِّ الشّيء، والميل نحوه، والرّغبة فيه،فنقولطعام شهي؛ إذاكان طيِّباً لذيذاً، يُدخل على آكله اللَّذَّة والمُتعة والسُّرُور.
فالشّهوة هي سُلُوك واع خاصٌّ للإنسان، فلا يُوجد للحيوانات شهوات،فالطّعام حاجة عُضويَّة مُشتركة بين الكائنات الحيَّة، أمَّا طَلَب تنوُّع الطّعام وتزيينه وطَبْخه؛ فهُو شهوة خاصَّة للإنسان دُون البهائم، وكَذلك العمليَّة الجنسيَّة، فهي مظهر من مظاهر غريزة النّوع، مُشتركة مع الكائنات الحيَّة، أمَّا الإعداد والتّزيين وما شابه ذلك؛ فهُو شهوة خاصَّة للإنسان.
لننطلق في دراسة النَّصِّ من المفهوم الشّائع أنَّ كَلمة (النّساء) هي جَمْع لكَلمة(المرأة)، وبالتَّالي؛ يكون المقصد من الشّهوة الميل والرّغبة الجنسيَّة للإناث.
لنقم بعمليَّة إسقاط للنَّصِّ على الواقع لإيجاد مصداقيَّة له، ومعرفة ما مدى درجة صحَّة هذا المفهوم الشّائع،وانسجامه مع نَظْم النَّصِّ نفسه، وتوجُّه النَّصِّ القُرآني كَكُلٍّ؟
إذا قُلنا إنَّ كَلمة (النّساء) في النَّصِّ جَمْع لكَلمة (المرأة)، نصل إلى نتائج:
أحدها: بما أنَّ كَلمة النّاس في صدر النَّصِّ تشمل الذُّكُور والإناث، فيخرج معنا أنَّ الذُّكُور لهم شهوة للنّساء، والإناث لهنَّ شهوة للإناث، كون كَلمة (النّاس) شاملة لكلاالنّوعَيْن الذَّكَر والأُنثى، فالمرأة لها شهوة نحو بني جنسها، وهذه العلاقة إذا كانت مقصودة في النَّصِّ،فيجب على الشّارع أنْ يُقرَّها، ولا يُحرِّمها؛ لأنَّها شهوة موجودة فطريَّاً في الإنسان،بينما نجد الشّارع قد وَصَفَ هذه العلاقة النّسائيَّة في الجنس الواحد بصفة الفاحشة،وحرَّمها، والمُجتمع ينظر لهذه العلاقة (السّحاق) كَمَرض نَفْسي وشُذُوذ يجب علاجه.
ثانياً: إذاأخرجنا النّساء من دلالة كَلمة (زُيِّن للنّاس) حتَّى نهرب من الاحتمال الأوَّل، فنصل إلى أنَّ دلالة النَّصِّ تُصبح (زُيِّن للذُّكُور حُبُّ الشّهوات)، وهذا المنحى باطل في واقع الحال؛ لأنَّ كَلمة (النّاس) على عُمُومها، ولا يُوجد قرينة تحصرها بالذُّكُور دُون الإناث، وكَذلك باطل أيضاً؛ لأنَّ النَّصَّ يتكَلَّم عن الشّهوات في الإنسان كإنسان، فالمرأة لا شكَّ معنيَّة بهذا الخطاب، ومَنْ منَّا لا يعلم بشهوة النّساء للذّهب المُقنطر؟ وباطل أيضاً هذا الإخراج للإناث من دلالةكَلمة (النّاس) لتصادمه مع إنسانيَّة القُرآن؛ إذْ يُصبح النَّصُّ ذُكُوريَّاً فقط، والشّهوات لهحصراً، والمرأة ليس لها أيُّ شهوات، وهذا مُخالف لما عليه الواقع.
ثالثاً: يقول بعضهم إنَّ ذكْر كَلمة النّساء من الشّهوات بالنّسبة للرّجال، وإغفال ذكْر الرّجل، وأنَّه شهوة للنّساء، هُو من باب الأدب والحياء؛ لكي لا يتمَّ إحراج للمرأة، وفي واقع الحال؛ إنَّ المرأة تشتهي الرّجل مثلها مثل الرّجل تماماً، وهذا معلوم في الواقع،والنَّصُّ أشار إلى ذلك عندما بدأ بالعُمُوم، واستخدم كَلمة (النّاس)، التي تدلُّ على الذَّكَر والأُنثى، فالرّجال يشتهون النّساء، والنّساء يشتهين الرّجال.
وهذا الكلام مردود على صاحبه؛ إذْ يصير النَّصُّ { زُيِّن للذُّكُور والإناث حُبُّالشّهوات من الإناث… } فلا يستقيم المعنى، ولا بأيِّ شكل، كما أنَّ ذلك المعنى الذيذكروه لا يدلُّ عليه النَّصُّ، وإنَّما تمَّ إقحامه من خارج النَّصِّ؛ ليتمَّ توليف النَّصِّ وتفسيره بشكل مُتماسك ومنطقي، ويتوافق مع الواقع، فأدخلوا في دلالة كَلمة (النّساء) الرّجال، وبالتَّالي؛ أصبحت الشّهوة مُتبادلة بين الجنسَيْن، وبمعنى آخر؛ لقد قاموا بتفصيل للنَّصِّ، وتعديل عليه، ليُوافق واقعاً هُم ارتأوه محلَّ خطاب النَّصِّ، وذلك لانتفاء مقدرتهم على معرفة محلِّ الخطاب للنَّصِّ القُرآني كما هُو، دُون أنْ يُجروا عليه أيَّ تعديل،والمُهمُّ في هذه العمليَّة هُو إقرارهم أنَّ الواقع هُو الذي يُعطي مصداقيَّة للنَّصِّ،وأنَّ النَّصَّ يجب أنْ يُفهَم حسب محلِّه من الخطاب، والواقع هُو الذي يُحدِّد المقصد من النَّصِّ، دُون الأوجه الأُخرى المُحتمَلَة.
رابعاً: إنَّ النَّصَّ يُنهي الخطاب بوصف هذه الشّهوات بأنَّها متاع الحياة الدُّنيا، فهل المرأة متاع للرّجل، وإذا كانت كَذلك، فلماذا لا يكون الرّجل متاع لها؟ كون النَّصّ القُرآني إنسانيَّاً في توجُّهه!!.
إنَّ كَلمة متاع تدلُّ على الأشياء التي ينتفع الإنسان بها، ولا يكون الإنسان متاعاً لآخرأبداً، فالمتاع كَلمة معروفة، وهي حاجيات الإنسان التي يملكها، فالذّهب والفضَّة والأنعام وما شابه ذلك، ممَّا يملكه الإنسان، أو يُحبُّ أنْ يحصل عليه، إنَّما هُو متاع الحياة الدُّنيا أيِّ أشياءزائلة ومُؤقَّتة، مهما كانت جميلة وثمينة، واللّه عنده حُسن المآب.
وما ينطبق على النّساء من حيثُ أنَّها متاع، كَذلك ينطبق على كَلمة (بنين)،وأنَّها متاع الحياة الدُّنيا، والأولاد ليسوا ـ هُم ـ متاعاً لوالدهم!! ممَّا يُؤكِّد ـ قطعاً ـ أنَّ النّساء والبنين ليسا وصفاً لكائن عاقل أبداً، وبالتَّالي؛ فلا مناص ـ أبداً ـ من عمليَّة إثبات دُخُول الإناث في كَلمة (زُيِّن للنّاس)، وكَذلك لا يُمكن أنْ يكون الإنسان من الأمتعة، سواء أ كان المرأة، أم الأولاد، وإذا كان الأمر كَذلك، فلا يُمكن أنْ تكون كَلمة (النّساء)جَمْعاً للمرأةفي النَّصِّ المذكور؛ لتعذُّر ذلك الجَمْع من حيثُ فقه النَّصِّ ومصداقيَّته في الواقع، وبالتَّالي؛ فكَلمة (النّساء) هي جَمْعُ كَلمة (النّسيء) ضرورة فقهيَّة وواقعيَّة.
وكَذلك كَلمة (بنين)، وهي من(بنى)، وهي كَلمة تدلُّ على ضمِّ شيء إلى شيء بناءً، ونستخدم ذلك في اللُّغة المحكيَّة، فنقول:بناية، ونجمعها على بنايات، وتُسمَّى مكَّة بنية().
وبناءً على ذلك؛ تكون كَلمة (النّساء) جَمْع(النّسيء)، والمقصود من هذا النَّصِّ هُو أنَّ النّاس (ذُكُوراً وإناثاً) عندهم شهوة الامتلاك والحُصُول والرّغبة في آخر الأشياء ظُهُوراً في الواقع، والاستزادة منها؛ من حيثُ الملبس والمركب والمسكن والأثاث وما شابه ذلك، وهي شهوة قائم عليها حَرَكَة التَّسوُّق، ولولا وُجُود هذه الشّهوة لتعطَّلت مصالح النّاس، وانعدمت الابتكارات، ولوُجد مصنع واحد للألبسة يكفي المُجتمع بكامله، وكَذلك فيمايتعلَّق بالطّعام والشّراب والسَّيَّارات وأمتعة البيت وأثاثه، وغير ذلك من مُتطلَّبات الحياة،فالواقع يشهد لهذه الشّهوةالتي تُحرِّك النّاس، وتجعلهم يعملون ليلا نهاراً، يتنافسون ليُحرِّكوا شهوة (النّساء)لامتلاك آخر الأشياء، وأحدثها ابتكاراً عند النّاس(ذُكُوراً وإناثاً).
وكَذلك شهوة امتلاك الأبنية، فالإنسان يشتهي امتلاك البُيُوت والمزارع،ويُحبُّ أنْ يبنيها، ويُضيف إليها كُلَّ ما هُو جميل ومُمتع.
ـ [ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أوأبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن ]النور31
فقد ذهب المُفسِّرون بأنَّ كَلمة (نسائهنَّ) في النَّصِّ هي جَمْعٌل كَلمة (المرأة) كماهُو شائع، وبالتَّالي؛ أصبح للنّساء المُؤمنات نساء خاصَّات بهنَّ، يُباح إظهار الزّينةأمامهنَّ، دُون النّساء الأُخريات، وذهب المُفسِّرون يبحثون عن النّساء اللاَّتي يجب على المُؤمنات أنْ يُغطِّين منهنَّ زينتهنَّ، فقالوا: هُنَّ نساء أهل الكتاب، كون الخطاب للمُؤمنات، وكَلمة(نسائهنَّ) راجعة عليهنَّ، ممَّا يدلُّ على أنَّ النّساء المقصودات بالنَّصِّ هُنَّ المُؤمنات فقط
وهذا التّفسير باطل في واقع الحال؛ لأنَّ المذكورين في النَّصِّ كُلّهم ذُكُور، فدلالة كَلمة(نسائهنَّ) ـ قطعاً ـ يجب أنْ تأتي للذُّكُور، وخاصَّة أنَّ الموضوع مُتعلِّق بحُكْم إبداءالزّينة من المرأة للذُّكُور، ولا يُوجد ـ في واقع الحال ـ مفهوم أنَّ المرأة تُغطِّي زينتها من المرأة؛ لأنَّ أصل التّغطية إنَّما هُو للنّساء عن الرّجال الأجانب، والنّساء لا يُغطِّينَ زينتهنَّ عن بعضهنَّ، بخلاف الفُرُوج، فإنَّها عورة المرأة على المرأة [ والذين هم لفروجهم حافظون]، فما هي دلالة كَلمة(نسائهنَّ) إذا كانت مُتعلِّقة بالذُّكُور؟
كَلمة (نساء) ـ كما ذكرتُ سابقاً ـ هي جَمْع لكَلمة (نسيء)، التي يُقصدبها التّأخير والزّيادة، فَمَنْ هُم الذُّكُور الذين يستجدُّون مُتأخِّرين في حياة المرأة اجتماعيَّاً، وقد أعطى لهم الشّارع ـ من حيثُ إظهار الزّينة أمامهم ـ حُكْم المحارم؟!
إنَّ الدّارس للنَّصِّ لا يجد زوج البنت مذكوراً بين المحارم، فما حُكْم إظهارالزّينة أمامه من قبَل أُمِّ الزّوجة؟.
وكَذلك لا يُوجد ذكْر زوج الأُمِّ، فما حُكْم إظهار الزّينة أمامه؟.
وكَذلك زوج المُرضعة وأولادها غير مذكورين في النَّصِّ، فما حُكْم إظهار الزّينةأمامهم؟ إلى آخر الصُّور الاجتماعيَّة، التي من المُمكن أنْ تستجدَّ في حياة المرأة،وتُضاف إليها.
فَمَنْ فسَّر كَلمة (نسائهنَّ) بأنَّها جَمْعٌ لكَلمة (المرأة) يجب عليه تحريم إظهارالزّينة أمام هؤلاء، كون النَّصّ قد فصل حُكْمَ المحارم الذين تُظهر المرأة زينتهاأمامهم، وكان ذلك بسياق النّفي (لا يُبدينَ) المُنتهي بأداة حصر (إلاَّ)؛ ليُشكِّل ـ في واقع الحال ـ دائرة مُغلقة غير قابلة للفَتْح، وعدم إضافة أحد كائن مَنْ كان!!
أمَّا إذا فسَّرنا أنَّ كَلمة(نسائهنَّ) جَمْعٌ لكَلمة (نسيء)، فقد دخل كُلُّ هؤلاء الرّجال الذين استجدُّوا في علاقتهم الاجتماعيَّة مع المرأة، وأعطاهم اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ حُكْم المحارم من حيثُ إباحة إظهار الزّينةأمامهم بالنّسبة للنّساء، وهذا التّفسير ضرورة فقهيَّة وواقعيَّة، وإلاَّ وقعنا في التّناقض بين النَّصِّ والواقع.
ـ[ الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ] النساء 34.
يجب مُلاحظة أمر هامٍّ في النَّصِّ؛ ألا وهُو أنَّ اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يستخدم جُملة (الذُّكُور قوَّامون على الإناث)، ولو استخدمها لكانت فصلاً في الخطاب! ولكنْ؛ يبقى السُّؤال المطروح: هل الرّجال والنّساء في النَّصِّ هُما بمعنى الذُّكُور و الإناث؟.
ونحنُ نقول إنَّه لا يُمكن أنْ يكون كَلمة الرّجال والنّساء في النَّصِّ اسم لنوع، بل هُما صفة للنّاس، والدّليل على ذلك هُو أنَّ النَّصَّ قد ذَكَرَ صفتَيْن للحُصُول على مقام القوامة؛ وهُما: الفضل والإنفاق، وهاتان الصّفتان ليستا ذُكُوريَّتان؛ أيْ لا تلدان مع الذَّكَر، وإنَّما هُما صفتان اكتسابيَّتان من المُجتمع؛ بدليل الواقع المُشاهَد،فَكَمْ من امرأة فاقت الذُّكُور علماً وأخلاقاً وإيماناً! وَكَمْ من امرأة تملك المال، وهي التي تُنفق على الأُسرة!
إذاً؛ صفَتَا الفضل والإنفاق صفتان اكتسابيَّتان مُتحرِّكتان بين الذُّكُور والإناث،بمعنى؛ مُمكن أنْ تتحقَّق صفة القوامة للمرأة التي تمتَّعت بهاتَيْن الصّفتَيْن، وتصبح رَجُلَةالبيت، ومُمكن أنْ يُصبح الزّوج وزوجته رجلا البيت، وبيدهما القوامة معاً، فالأمر مُرتبط بالواقع الاجتماعي الذي يُفرز دور القوامة، ويُعطيها لواحد دُون الآخر.
هذا واقع النّاس اجتماعيَّاً، والنَّصُّ القُرآني جاء ليتكَلَّم عن واقع،وليس عن خيال، و المصداقيَّة بين النَّصِّ القُرآني والواقع ضرورة إيمانيَّة، وإلاَّ لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً بين النَّصِّ ومحلِّ النَّصِّ من الواقع، وبالتَّالي؛فليس النَّصُّ من عند اللّه عزَّ وجلَّ.
فالتّطابق والمصداقيَّة للنَّصِّ مع الواقع غير مُتحقَّقة؛ إلاَّ إذا فهمنا أنَّ الرّجال في النَّصِّ يُقصَد بها التَّرجُّل، وليس اسم جنس، وكَذلك النّساء يُقصَد بها المُتأخِّرين، وليس اسم جنس.
ويكون المقصد في النَّصِّ هُو أنَّ القوامة بيد الفئة التي تملك العلم والوعي والمقدرة على الإنفاق، بغَضِّ النَّظَر عن الجنس (ذَكَر أو أُنثى)، فمُمكن أنْ تكون المرأة هي رَجُلَة البيت، ومُمكن أنْ يكون الزّوج رجل البيت، ومُمكن أنْ يتقاسما القوامة بحسب ما اكتسب كُلٌّ منهما من الصّفات التي تُؤهِّله لمقام القوامة.
فالنَّصُّ لا علاقة له بالذُّكُورة، أو الأُنُوثة أبداً، ومن الخطأ اقتطاع جُملة منه، والاستشهاد بهامُنفردة (الرّجال قوَّامون على النّساء)، فهذا عمل غوغائي؛ مثله كمثل مَنْ يقول: (فويل للمُصلِّين)، أو (فانكحوا ما طاب لكم من النّساء).
ـ [نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشرالمؤمنين ] البقرة 223.
إنَّ عُلماء التّفسير قد جعلوا هذه الآية تفسيراً للآية التي قبلها، وذلك تأثُّراً بالتلمود، الذي جُعلَ منظاراً يستخدمه عُلماء التّفسير لفَهْم القُرآن، فأصبح التلمود حاضر بجانب القُرآن كَتفسير، القُرآن للتّلاوة، والتلمود للتّفسير والدّراسة ولبناء الثّقافة الإسلاميَّة،وتمَّ نَشْر ذلك تحت مظلَّة القُرآن، ومازال يستمرُّ في عمليَّة رَفْد وتأسيس الثّقافة الإسلاميَّة.
إنَّ النَّصَّ الذي قبل النَّصِّ المذكور هُو:[ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ] البقرة 222.
إنَّ حُكْم إتيان المرأة في قُبُلها ـ بأيِّ وضع كان ـ هُو أمر معلوم بالضّرورة للنّاس،والشّارع قد تضمَّن هذا المعنى عندما حصر عمليَّة النّكاح ألاَّ تكون إلاَّ في القُبُل،وهذا واضح صريح في النَّصِّ.
وبالتَّالي؛ كُلُّ إنسان يفهم أنْ له الحُرِّيَّة بأنْ يختار الشّكل والوضع الذي يُريد؛ بشرط أنْ يكون النّكاح في القُبُل حصراً، ولا حاجة لنُزُول أيَّ أمر وراء الأمر التي تضمَّن هذا الحقَّ؛لأنَّ ذلك يُعدُّ تكراراً وعَبَثَاً، والقُرآن مُنزَّه عنه. ممَّا يدلُّ على أنَّ الآية الثّانية لا علاقة لها بمضمون الأُولى، لا من قريب، ولا من بعيد، وإنَّما هي تتكَلَّم عن موضوع آخر تماماً لا علاقة له بالنّكاح أبداً.
نُلاحظ في النَّصِّ أنَّه يحتوي على أربعة أفعال مُتلازمة مع بعضها، وهي (فأتُوا، قدِّموا،اتقُوا، اعلمُوا)، وكَلمة (الحَرْث) تدلُّ على الجَمْع والكَسْب، ولأنَّ النّكاح أمر لا علاقة له بالنَّصِّ، فكَلمة (النّساء) ليست جَمْعَاً للمرأة قطعاً؛ لأنَّها لو كانت جَمْعَاً للمرأة لانتفى عن النَّصِّ مضمون الأفعال الأربعة؛ لانتفاء وُجُود علاقة بينهم وبين عمليَّة حُرِّيَّة إتيان نكاح المرأة بالشّكل الذي يُريد الرّجل؛ممَّا يدلُّ على أنَّ كَلمة(نساؤكم) هي جَمْعٌ لكَلمة (نسيء)، والمقصود هُو أنْ يقوم الإنسان بالعطاء والصّلة (فأتوا)للنّاس المُتأخِّرين اجتماعيَّاً واقتصاديَّاً وثقافيَّاً، فهؤلاء مكان للحَرْث(العمل الصّالح) بأيِّ طريقة مشروعة، يترتَّب عليها رَفْع وإعالة هؤلاء النّاس على الصّعيد الاجتماعي والاقتصادي والثّقافي، من الكَلمة الطَّيِّبة، إلى الطّعام الطَّيِّب، والملبس الحَسَن، والمسكن الدّافئ، فإتيان الحَرْث أمر تحت مُتناول يد النّاس جميعاً، فَمَنْ لم يستطع دَفْعَ المال يقوم بجَمْعه، والحضّ على فعل الخير، أو يقوم بتعليم وتثقيف النّاس [وتواصوا بالحق وتواصوابالصبر] [ وتعاونوا على البر والتقوى ] ، فأبواب الخير كثيرة جدَّاً، لا يعجز الإنسان عن إتيانها أبداً.
ويُتابع النَّصُّ أنَّ هذه الأعمال الصّالحة التي قُمتُم بها إنَّما هي ـ في الحقيقة ـ تقديم لأنفسكم؛ لأنَّها سوف يُثيبكم اللّه عليها الثّواب العظيم يوم القيامة، فاتقوا اللّه، وآتوا حَرْثكم كيفما شئتُم ضمن إمكانيَّتكم، ولا يُوجد إنسان لا يملك شيئاً يُقدِّمه للمُجتمع؛ ابتداءً من أُسرته الصّغيرة، إلى الأكبر » الأقربون أَولى بالمعروف «، واعلموا أنَّكم سوف تُردّون إلى عالم الغيب والشّهادة، وسوف يُحاسبكم لماذا لم تعملوا الخير؟ فلا يكفي للإنسان أنْ يبتعد عن الشَّرِّ، بل لابُدَّ له من أنْ يعمل الخير؛ لأنَّ دُخُول الجنَّة مُرتهنٌ بالعمل الصّالح[ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ] وأخيراً؛ بشِّر الذين اتَّبعوا واستجابوا لأمر اللّه بأنَّهم قاموابفعل العطاء والصّلة لنسائهم (المُتأخِّرين)على الصّعيد الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الثّقافي( ) بمغفرة من اللّه ورضوان.
ـ [ لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناءأخواتهن ولا نسائهن ولاما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيداً]الأحزاب 55 .
إنَّ هذه الآية تتكَلَّم عن أُمَّهات المُؤمنين (زوجات النّبي) حسب سياق الآيات التي قبلها، التي تُعلِّم المُؤمنين آدابَ التّعامل مع بيت النُّبُوَّة، فيُخبر اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ أُمَّهات المُؤمنين أنَّهنَّ لا جناح عليهنَّ في التّساهل والتّجاوز بالتّعامل مع هؤلاء الذين ذكرهم في النَّصِّ، ولكنْ؛ إذا دقَّقْنَا النَّظَر لا نجد ذكْراً للجَدِّ والعمِّ والخال، ممَّايدلُّ على أنَّ كَلمة (آبائهنَّ) تشمل كُلَّ أصل للإنسان مهما علا نسباً عن طريق الوالد أو الوالدة،وبالتَّالي؛ فقد تضمَّنت كَلمةُ (آباء)الجَدَّ والعمَّ والخالَ، وذلك بالنّسبة للنُّصُوص التي ذكرت كَلمة(آباء) في سياق النَّسَب،أمَّا ذكْر كَلمة (آباء) في سياق التّاريخ والمُجتمع؛ فيُقصَد بها كُلُّ مَنْ سَلَفَ من القوم رجالاً ونساء؛ نحو قوله تعالى:[ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ](الزُّخرف 22)، فالنَّصُّ السّابق تكَلَّم عن الأُصُول مهما علت (الآباء)، وتكَلَّم عن الوسط (الأُخوة)،وتكَلَّم عن الفُرُوع مهما نزلت (الأبناء)، وذكر النّساء وملك اليمين، فالنَّصُّ يحتوي ـ فقط ـ على الذُّكُور؛ لأنَّ النّسوة لهنَّ حُكْم خاصٌّ فيما بينهنَّ، ممَّا يدلُّ على أنَّ كَلمة(نسائهنَّ) لا يُقصَد بها النّسوة، بدليل عدم ذكْر الصّهر (زوج البنت)وهُو من المحارم الأبديَّة لأم الزوجة، وحُكْمه في الزّينة حُكْم المحارم، ممَّا يُؤكِّد أنَّ كَلمة (نسائهنَّ) هي جَمْعٌ لكَلمة (نسيء)، وليست جَمْعَاً لكَلمة (امرأة)، ويكون المقصد هُو كُلُّ علاقةاجتماعيَّة تأتي مُتأخِّرة ـ فيما بعد ـ تُزاد وتُضاف على هؤلاء، تأخذ حُكْمهم؛ نحو الصّهر(زوج البنت)، فهُو علاقة اجتماعيَّة مُستجدَّة لم تكن موجودة مُسبقاً.
هذه النُّصُوص الخمسة جاءت فيها كَلمة (النّساء) جَمْعَاً لكَلمة (نسيء)، وكما هُو مُلاحَظ أنَّ التّفسير هذا قد أعطى بُعْدَاً للنُّصُوص لم يكن موجوداً عندما فسَّروا كَلمة (نساء) كَجَمْع لكَلمة (امرأة)، والإصرار على التّفسير القديم سوف يُسبِّب إرباكاً واضطراباً في فَهْم النُّصُوص، لذلك نجدهم يستعينون بنُصُوص أُخرى من الحديث النّبوي؛ ليُكملوا النَّقْص،ويسدُّوا الثّغرات التي خرجت معهم في التّفسير، أو يقوموا بتفصيل جديد للنَّصِّ، وإدخال عناصر جديدة فيه، حتَّى ينسجم مع الواقع والنُّصُوص الكُلِّيَّة، وكُلُّ ذلك إنَّما مردُّه إلى غياب المنهج الصّحيح لفَهْم النَّصِّ القُرآني،الذي يُؤدِّي إلى رَفْض كُلِّ فَهْم مُعاصر للنَّصِّ القُرآني، حسب الأدوات المعرفيَّةالتي يملكها كُلُّ مُجتمع،ويُصبح المُجتمع يعتمد في ثقافته على النَّقْل دُون العَقْل، ويدرس السَّنَدَ دُون المـَتْن،والمـَتْنَ دُون محلِّه من الخطاب!.
وَصَدَقَ مَنْ قال:

كم من عائب قولاًصحيحاً
وآفته من الفَهْم السّقيم