أضواء على منهج الدكتور محمد شحرور
القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية اجتماعية
مقولة صلاحية القرآن واستمراره لكل زمان ومكان عند المؤمنين به تقتضي بطبيعة الحال بشكل منطقي أن تكون بُنية القرآن بُنية مختلفة تماماً عن أية بُنى من النصوص الأخرى، ومن هذا الوجه لم يُعَدّ النص القرآني نصاً تاريخياً كأي نص آخر، وهذا صواب. ولكن نفي صفة التاريخية عن النص القرآني أدى عند المسلمين خلال قرون مضت إلى أن يجمدوا دراسة هذا النص ونفي فاعليته تماماً.
وسحبوا التفاعل الأول الذي لازم النص نزولاً إلى المجتمعات اللاحقة إذ صار كل مجتمع بمثابة قناة نقلية يتم من خلالها مرور التفاعل الأول، وهكذا صارت ثقافة المسلمين ثقافة نقلية، والعلم هو حدثني فلان عن فلان ( ثرثرة تاريخية)، وكثرت المقولات التي تشيد بالتثقيف الوراثي نحو: «عليكم بالأمر العتيق» و«خذوا العلم ممن مات لأن الحي لا يُؤْمَن عليه الفتنة»… إلخ.وبهذا العمل صارت المجتمعات نسخة طبق الأصل عن المجتمع الأول الذي عاصر نزول النص الإلهي.
فكان هذا الأمر أحد أهم أسباب تخلف المسلمين وتغيبهم عن ساحة عالم الشهادة، ودخولهم في متاهة التاريخ وتبني المواقف الأيديولوجية في ذلك الوقت وبدء الصراع من جديد من خلال سحب هذا الصراع الأيديولوجي وما نتج عنه من فقه وعقائد إلى الزمن المعاصر إذ صار المجتمع الحالي يعيش في الماضي فكراً وثقافة، أما حضوره في الزمن المعاصر فهو حضور شبحي «كأنهم خشب مسندة»!
وتصدى لهذه الظاهرة الفيروسية مفكر عربي سوري الدكتور(محمد شحرور) منذ عقدين من الزمن وتناول القرءان ككتاب ينبغي أن يكون له مفاتيح وضوابط وقواعد لدراسته موجودة في داخله لا يضعها البشر ، وأبحر في مضمونه يبحث عن هذه المفاتيح الداخلية ليستخدمها في الفتوحات القرءانية وينهل من نبعه الصافي، وأول ما انتبه له هو أن القرءان نزل بلسان عربي مبين وهذا يعني اختلاف استخدام اللسان عن استخدام الناس له، ووضع دراسة عميقة منهجية في كتاب كبير بعنوان( الكتاب والقرءان) وصدر في دمشق عام 1991.
وقال: يجب أن نفرّق بين النص الإلهي وبين فهم المجتمع وتفاعله مع النص الإلهي لأن تفاعل المجتمع مع النص وصياغة تفسير ومفهوم له يخضع لعامل التاريخ، وذلك لأن المجتمع يتعامل مع النص الإلهي حسب أدواته المعرفية فيكون فهم النص من قبل أي مجتمع خاص لهم لا يتجاوزه إلى غيره إلاّ من كونه تراثاً ثقافياً يؤخذ به بعد عملية فرزه حسب الأدوات المعرفية الجديدة،ويبقى النص الإلهي مستمراً في الوجود والعطاء الزمكاني لكل مجتمع يتفاعل معه بشكل مباشر حسب أدواته المعرفية.
ومع هذا الوجه تظهر لنا الحاجة الملحة للقراءة المعاصرة للنص الخالد حتى نحمي مجتمعنا من الاختراق الثقافي والعولمة ومن الذوبان في الثقافة الوافدة إلينا عبر وسائل التقنية التي فرضت ذاتها علينا من خلال قانون التطور والتواصل العالمي الاقتصادي والإعلامي وتابعية الضعيف للقوي.
هذه القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية لتماسك المجتمع وإعادة بنائه من جديد على أسس ثقافية تسع الجميع لينهض المجتمع من سُباته الذي غرق فيه مئات السنين ليبني أساس البيت الكبير الذي هو حق للتابعين له من دون تفريق بين واحد وآخر.
نظرة على منهج
القراءة المعاصرة للقرآن
قد يظن بعض الباحثين أن القراءة المعاصرة للقرآن مُتسيبة لا ضوابط لها، وبالتالي فممكن أن تظهر قراءة وجودية للقرآن تنفي مصدريته الإلهية، بل تنفي الإله نفسه،وتُعَدُّ هذه القراءة رأياً لصاحبها يجب أن يُصان حسب الذين يدعون للقراءة المعاصرة! من هذا المنطلق رفضوا القراءة المعاصرة من أساسها، ومنهم من قبلها بشرط أن تُعيد تأسيس التراث وتعطيه الحياة مرة ثانية، ولست في صدد نقاش الرأيين وإنما سأكتفي بالإشارة إلى أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها القراءة المعاصرة للقرآن،ومن خلالها وما سبق ذكره يظهر تهافت الرأيين السابقين.
أولا:أساس القراءة المعاصرة للقرآن ومنطلقها هو الإيمان بمصدريته الإلهية، لأن انتفاء هذه المصدرية ينفي عنه القراءة المعاصرة ويصير نصاً تاريخياً وتراثاً لمن سبق من المجتمعات غير مُلزم بقراءته.
ثانيا:النص القرآني نزل باللسان العربي المبين وهذا يقتضي أن نتعامل معه حسب بنية اللسان العربي المبين وقواعده الموجودة في الخطاب ذاته وتمييزه عن اللسان العربي القومي لغة الشعر القائمة على الترادف والمجار والتساهل في الخطاب والاهتمام بالمعنى على حساب المبنى.
أهم مفاهيم اللسان العربي المبين
1- نشأة اللسان نشأة علمية وليست اعتباطية أو توقيفية.
2- إذا اختلف المبنى اختلف المعنى.
3- أسلوب الرمز استخدمه القرءان بشكل عربي.
4- نفي المجاز وما سُمِّي خطأً بالترادف عن اللسان العربي.
5- نظام استخدام الضمائر في القرءان يختلف عن الاستخدام الشائع بين الناس.
6- أي تغيير في بنية الجملة من زيادة أونقصان أو تقديم أو تأخير يؤثر بالمعنى والمفهوم.
7- العطف يقتضي التغاير على صعيد الذات أوالصفات.
8- العلاقة بين اللسان العربي والواقع جدلية.
9- الألفاظ العربية أجسام تقوم بها المفاهيم.
10- الألفاظ العربية حقل وميدان للتفكير.
إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة باللسان العربي.
هذا مدخل وتوطئة وتعريف للمنهج مع توضيح وتسهيل عبارته وتعديل طفيف عليه الذي عرضه الدكتور شحرور في كتابه وذلك لا يُغني عن قراءته ،وكان للكتاب صدى كبير حينما نزل واستمر صداه طوال عقدين من الزمن لا تخبو فاعليته،و تناوله الباًحثون دراسة ونقدا ونقضاًً،وأيقظ الأمة الغارقة بسُبات عميق وألزم الباحثين بإعادة النظر في قضايا كثيرة وفتح ملفاتها ، وأعادهم إلى التفاعل مع القرءان بلسانه العربي المبين.
اضف تعليقا