الغرائز والحاجات البشرية والنّفسية
لقد عرفنا أنَّ البشر كائن رحمادي، ممزوج بطاقة حيوية، له غرائز وحاجات عضوية، وعندما نُفخ فيه من روح الله، وُجِدَت النّفس فيه، واستقرت في الجسم البشري، وتَفَعَّل السّمع والبصر والفؤاد؛ كجهاز للتّمييز والإدراك و صار بذلك إنساناً، وعند ذلك ظهرت لنفسه غرائز خاصَّة بها، نحو غريزة التّدين، ومن هذا الوجه يقول الفلاسفة: إنَّ الإنسان كائن متدين بالفطرة.
إذن؛ يُوجد غرائز للكائن البشري، وغرائز للكائن النّفسي، وكذلك بالنّسبة للحاجات، فللكائن البشري حاجات عضوية، وللنّفس حاجات نفسية.
فما هي الغريزة ؟
غرز: كلمة تدل على شيء غائب بصورة مكررة، منتهية بصورة بروز متصل. نحو غرز الوتد في الأرض.
والأمور المغروزة في الكائن البشري، ككائن رحمادي حيوي، هي غريزة النّوع، وغريزة البقاء؛ ولابُدَّ من إشباع هذه الغرائز؛ لأن عدم إشباعها،يصيب الكائن الحي، باضطراب في حياته، ويُهَدَّدْ بانقراض جنسه.
أما الحاجات العضوية، التي هي حاجات الكائن الحي، إلى الهواء والماء والطّعام والنّوم، وطرح الفضلات منها، فإشباعها أمر حتمي؛ لأن عدم إشباعها، يُؤدِّي إلى هلاك الكائن الحي وموته.
وتظهر غريزة النّوع، بمظهر الميل الجنسي نحو النّوع الآخر، ومظهر العناية بالصّغار، أما غريزة البقاء فتظهر في ميل الكائن الحي إلى التّجمع والانضمام لجماعة من نوعه، واجتناب الخطر؛ نحو:الأماكن المرتفعة والنّار، والقتال؛ للدّفاع عن حياته، وميل السّباع إلى الصّيد؛ لتأمين إشباع حاجة الجوع.
إذن؛ للكائن الحي البشري غريزتان، هما:
غريزة النّوع، وغريزة البقاء، وإشباعهما أمر لازم؛للحفاظ على الجنس البشري، وله حاجات عضوية، لابُدَّ من إشباعها للحفاظ على حياته الفردية، وهي حاجة الكائن البشري إلى الهواء، والماء، والطّعام، والنّوم، وطرح فضلاتها خارج الجسم.
أما غرائز النّفس؛ فهي غرائز وُجدت من خلال وُجُود النّفس، فهي غرائز نفسية، وهذا يعني أنها مُرتبطة بالوعي،والإدراك، والتّمييز، وإشباعها يكون بصُورة واعية ومدركة، وهذه الغرائز النّفسية أربعة:
1 ـ غريزة التّعلم:
إن الإنسان ككائن ٍعاقل ٍ، يندفع بصُورة مستمرة، إلى حب المعرفة والاكتشاف، ويظهر ذلك من خلال الفضول والسّؤال، عن كل ما يجري حوله: بكيف، ولماذا،وأين ؟ وأي إنسان يُلجم نفسه عن هذه الأسئلة، ويُغلق نافذة العلم، وحب التّعلم،يصاب بقلق واضطراب في نفسه، وبفقدان التّوازن في حياته، ويعيش في حالة الظّلمات، والجهل المطبق الذي ينعكس على سُلُوكه في الحياة،وعلاقته بالكون والدّنيا والإنسان والأسرة والمجتمع.
2 ـ غريزة التّدين:
وهذه الغريزة، تظهر بشُعُور الإنسان بحالةالضّعف، والاحتياج، والعجز، سواء أكان ذلك أمام ظواهر الطّبيعة، أم الظّواهرالاجتماعية، أم من ظاهرة شُعُور الإنسان باحتياجه لصلة نفسه مع جهة قادرة وقوية،تؤمن له الحماية والعناية، فيتولد عنده مظاهر التّدين، من تقديس وتعظيم، وخشية،ورغبة، ورجاء، ودعاء، والتّجاء، وتذلل، وخضوع، وحب، وكره، وخوف..الخ، وبما أنَّ النّفس هي نتيجة نفخة روحية، والرّوح هي العلم والمعرفة وأمر الله الشّرعي؛ الذي أنزله على الرّسل، تميل النّفس وتطلب الاتِّصال بالرّوح؛ لتحصل على التّوازن والاطمئنان النّفسي، إذ هي كائنٌ روحيٌ ابتداء، ولذلك يقول الفلاسفة:إن الإنسان كائن متدين بالفطرة، والدِّين ضرورة نفسية له.
3 ـ غريزة الاجتماع:
و تظهر هذه الغريزة في الإنسان، بميله إلى ضرورة العيش ضمن أسرة وانتماء إلى مجتمع؛ لأنَّ الإنسان ككائن عاقل، إنَّما هو من صنع المجتمع، ومن هذا الوجه يقول الفلاسفة: إن الإنسان كائن اجتماعي؛ وذلك لأنَّ الإنسان في المجتمع، يختزل الخبرات والتّراكمات المعرفية في شخصه، ويستمر في حياته بناء على هذه الجرعة الاجتماعية، ومن أهم ما يعطيه المجتمع للإنسان كفرد هو اللسان، ولذلك يقول علماء الاجتماع: إن اللسان ظاهرة اجتماعية؛ فالعزلة والوحدة والانطواء والرّهبنة، وما شابه ذلك من أمور، إنَّما هي أشياء مخالفة لغريزة الاجتماع في الإنسان، ومن ثم، يصيب الإنسان الذي يمارس هذه الصّفات، مرض نفسي، من اكتئاب، أو توحش من الناس، وعدم الاستئناس بهم،أو قلق واضطراب، وضيق يلازمه.
4 ـ غريزة التّنوع والتّغيير:
إن من طبيعة الإنسان في الحياة المعيشية، حبه للتّنوع والتّغيير في نمط حياته، سواء أكان الطّعام والشّراب، أم الملبس والمسكن، أم البلاد والعباد…الخ، فيسعى في حياته إلى كل جديد، يمتلكه أو يمارسه.
ولذلك نرى كثيراً من النّاس، يحبون المغامرات من تسلق الجبال، إلى التّزلج على الجليد، إلى رمي أنفسهم من مكان مرتفع؛ بواسطة الحبل المطاطي، إلى القيام بأعمال خطيرة، من حركات بهلوانية رياضية بأجسامهم أوبالطّائرات، يسعون من وراء ذلك كله إلى إشباع غريزة التّنوع والتّغيير؛ ليصلوا إلى تحقيق التّوازن النّفسي والاطمئنان في حياتهم، من خلال إيجاد قيمة لأنفسهم،والحصول على التقدير من أنفسهم أو الآخرين، لأن التقدير للنفس مهم جداً لتوازنها.
أما حاجات النّفس فهي: الكرامة والحُرِّيَّة، وإشباعهما هو المحافظة عليهما ـ في الواقع ـ ومُمارستهما، وأي تعدي عليهما،إنَّما هو قتل معنوي لهما، والإنسان الذي يُقْدَحُ في كرامته، وتُقَيَّدُ حريته يصير إنساناً مقتول النّفس، ويشعر أن حياته الجسمية لا معنى لها، أو غير مهمة، وقد يقوم بالإقدام على إنهاء حياته الفيزيولوجية، وذلك بالانتحار.
وحاجة الكرامة في الإنسان، تظهر من خلال المُثُل العليا التي يحملها الإنسان، من قيم ومبادئ، فإذا تعرضت هذه القيم والمبادئ، إلى عملية الإهانة والاحتقار تعرض هذاالإنسان لعملية القتل النّفسي المعنوي؛ فلذلك ينبغي أن يتم تعديل القانون، بحيثيتناول الجرائم النّفسية التي يمارسها المجرم ضد الآخرين، فالقتل الجسمي، ليس بأكبر من القتل النّفسي، وطعن الإنسان في جسمه، ليس بأخطر من الطّعن في نفسه.
أما الحُرِّيَّة؛ فهي الأساس والحكمة، التي بموجبها خلق الخالق النّاس في الدّنيا ليبتليهم، فالابتلاء مُرتبط بالحُرِّيَّة، والمسؤولية والمحاسبة مُرتبطتان بالحُرِّيَّة، فالحياة هي الحُرِّيَّة، والحُرِّيَّة هي الحياة ومن يُعدم الحُرِّيَّة يُعدم الحياة.
وتظهر الحُرِّيَّة في واقع الإنسان بعدة أمور هي:
1 ـ حُرِّيَّة الاعتقاد والفكر.
2 ـ حُرِّيَّة الرّأي.
3 ـ الحُرِّيَّة الشّخصية.
4 ـ حُرِّيَّة الملكية.
وهذه الحريات الأربع، هي الحُرِّيَّة في معناها العام، وهي منضبطة بالفكر الكلي عن الإنسان والكون والحياة؛ وأي انتهاك لأحدها؛فهو قتل وإرهاب نفسي لهذا الإنسان، يسبب عنده حالة القمع الدّاخلي، والانطواء على نفسه والانكماش والانسحاب من الحياة، فلذلك يبذل الإنسان حياته من أجل حريته؛ لأنَّ الحُرِّيَّة هي الحياة.
هذه هي الغرائز والحاجات، للكائن الرّحمادي،الممزوج بالطّاقة الحيوية (بشر) المنفوخ فيه من روح الله، التي نتج عنها النّفس (الإنسان).
اضف تعليقا