إن العلمانية هي ترجمة لكلمة فرنسية (اللايكية)1وهذه الترجمة غير موفقة ومجانبة للصواب لأن كلمة (لايك) لا ترتبط بأية علاقة اشتقاقية مع لفظة (علم). إن أصل الكلمة يوناني: (لايكوسي) ومعناها ما ينتمي إلى الشعب، إلى العامة وذلك في مقابل ((كليروس)) أي الكهنوت: رجال الدين الذين يشكلون فئة خاصة (رجال الكنيسة بالنسبة للمسيحية). إذن فاللايكي هو كل من ليس كهونتياً، من لا ينتمي إلى سلك رجال الكنيسة.ذلك هو المعنى الأصلي للكلمة. ثم حصل نوع من الشطط في استعمالها (بالفرنسية) فاستعملت للدلالة على العداء للدين ورجاله. وبما أن تعليم الدين كان من اختصاص الكنيسة، وكان يتم في الأديرة، فإن التعليم العمومي الذي أقامته الدولة كان مقصوراً في الغالب على العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، ومن هنا ارتبطت بمخيلة عوام الناس والمثقفين (اللايك) بالتعليم، فأصبحت تعني(( تعليم العلم في المدرسة وتلقين التربية الدينية في الكنيسة)).واضح إذن أن اللايكية فكرة مرتبطة أصلاً بوضعية خاصة، وضعية المجتمع الذي تتولى فيه الكنيسة السلطة الروحية بين الإنسان والخالق. وعندما قام العرب بترجمتها أخذوا المعنى السائد في مخيلة عوام الناس والمثقفين في الغرب، حتى أن مؤلفي قواميس اللغة الأجنبية كذلك وقعوا في نفس الخطاً عندما قاموا بترجمة كلمة العلمانية بأنها فصل الدين عن الحياة أو الدولة تقليداً ومحاكاة لترجمة كلمة اللاييك المحصورة المعنى برجل الدين الكهنوتي الكنسي، ولكن الذي جرى أن الكلمة ترجمت بشكل مجرد عن واقعها فانتشرت بمعنى الدين فقط حيث أن في الفكر المسيحي يندمج رجل الدين مع الدين إذ هو الوسيط الروحي بين الإنسان المسيحي والخالق عز وجل. فصارت كلمة اللايك تعني اللادين، والعلمانية نظام حياة يقوم على العلم فقط مع استبعاد الدين2 من الحياة كونه يعارض العلم والتطور.
هذه هي ترجمة كلمة العلمانية واللاييك، وكما هو ملاحظ أنهما صدى ونتيجة لمعاناة الشعوب الأوربية من تسلط الكنيسة على الدولة، ورجال الدين المسيحي على المجتمع ككل، ومحاربة الكنيسة للعلم والتطور.فهل المجتمع العربي والإسلامي يعاني من تسلط المسجد على الدولة؟ وهل يوجد في الدين الإسلامي رجال وسطاء بين الإنسان والخالق يقومون بإعطائه صكوك الغفران، وتعميده والسيطرة على فكره؟
وهل يحارب الدين الإسلامي العلم والعلماء والتطور والتجديد؟ فالجواب معلوم للجميع من خلال الواقع والتاريخ الإسلامي، فالمسجد هو مكان لإقامة الشعائر التعبدية ومنبر للفكر والتوعية والتواصل الاجتماعي، وليس هو مؤسسة سياسية لقيادة البلاد، كما أن العلماء هم مثل باقي الناس ليس لهم أي امتيازات ولا وصاية لهم على أحد، بل ولا يشكلون وسطاء بين الإنسان والرب، بل العلاقة في الدين الإسلامي تكون بين الإنسان وربه بصورة مباشرة دون وسيط، ولا يملك أحد من الناس أن يقوم بدور الوسيط أو المغفرة للذنوب، وبالتالي فلا رجال دين في الإسلام. أما العلم فهو حجر الأساس الذي يقوم عليه الدين الإسلامي، فالقرآن مليء بالنصوص التي تدعو وتأمر بالعلم والتعلم والتفكير والدراسة والسير في الأرض لمعرفة كيف بدأت الأمور وكيف سارت وإلى ماذا صارت. بجانب محاربة الهوى وإتباع الآباء والأكثرية دون برهان. إذن مفهوم العلمانية هو بذرة غربية نشأ في تربتها ضمن ظروفها لا يصلح غرسه في التربة الإسلامية لاختلاف الظروف، وعدم معاناتنا من تلك المشكلة أصلاً. وبعد أن تبنى مفكروا الغرب العلمانية كأساس للانطلاق والبناء عليه انقسموا فريقين:
– الفريق الأول: الفكر الرأسمالي تعرض لحل العقدة الكبرى الممثلة بالأسئلة الفطرية الثلاثة (كيف، لماذا، أين) حلاً تلفيقياً ،لأن أساس العقلية الفكرية المنهجية التي يستخدمها هذا الفريق إنما هي قائمة على الحلول الترقيعية التي تُرضي جميع الأطراف مع الحفاظ على تحقيق المصلحة لهم. وهذا يقتضي منهم ترسيخ النزعة الفردية في المجتمع حتى لا يوجد في المجتمع تكتلاً يقوم ويطالب بتصحيح الأوضاع وإعادة التعرض لحل العقدة الكبرى ،ومن ثم البناء على هذا الحل الجديد، فأوجدوا ما يسمى بالحريات الأربعة كنظام اجتماعي بجانب الديمقراطية التي هي نظام سياسي ليشكلا مع بعضهما الفكر الرأسمالي، وصاغا ذلك بشعار[فصل الدين عن الحياة] فلم يكن موقفهم من الدين إنكاراً ولا إثباتاً، وإنما كان موقفاً ترقيعياً تلفيقياً، وأبعدوا الدين من الحياة الاجتماعية إلى الجانب الفردي الشخصي، وعززوا ذلك الموقف بالحريات الأربعة، حتى صار نقاش ودراسة العقدة الكبرى مسألة لا تعني المجتمع، ولا يهتم بإيجاد حل لها ويَعُدَّها من المسائل الشخصية، بل إن الفرد نفسه قد تأثر بموقف المجتمع فقام بعملية فصل الدين عن حياته شكلاً ومضموناً ،وأهمل حل العقدة الكبرى، وسار في تخبطه مضطرباً مناقضاً للفطرة الإنسانية على مستوى الممارسة الأخلاقية والاجتماعية.
– أما الفريق الآخر فقد قام بحل العقدة الكبرى حلاً إيديولوجياً ،ووصل إلى نتيجة مفادها أن لا إله والحياة مادة، فأنكر مسألة حقيقية الإله والدين( الغيب ) وتعامل مع الواقع بصورة مباشرة، فظهرت الديمقراطية الاشتراكية لخدمة الفكر الاشتراكي، ومن هذا الوجه ظهر ما يسمى بالخصوصية في التجربة الديمقراطية لكل فكر.
ولكن الملاحظ أن الديمقراطية الرأسمالية، والديمقراطية الاشتراكية، كلاهما انبثقا ابتداء من مفهوم العلمانية، فكانا بذلك توأمين، أحدهما قام بتمييع موقفه من الدين وتهميشه إلى الحد الوجداني، فلم ينكر الدين، ولم يثبته، وإنما اختار موقفاً تلفيقياً قائم على الترقيع صارفاً الناس عن حل العقدة الكبرى، وبالتالي لا يوجد ثوابت في الفكر الرأسمالي إلا ما يرونه مصلحة لترسيخ الاستبداد والاستعباد للشعوب، ومن هذا الوجه نلاحظ أن سياسة هذه الدول الاستكبارية قائمة دائماً على النظرة الأحادية الذاتية والكيل بمعيارين.
أما الفكر الاشتراكي فقد تبنى الديمقراطية ضمن حزبه الأوحد، وأحيانا تختفي الديمقراطية تماماً في المجتمع الاشتراكي كممارسة، وتبقى لحناً يتم العزف عليه، وعلى الحالتين فالديمقراطية الاشتراكية إنما هي لترسيخ أفكار الحزب وإيديولوجيته ليس إلا وإذا احتاج الأمر ظهرت الأنياب والمخالب ونهشت في جسم الأمة فالديمقراطية لها أنياب ومخالب يتم من خلالها تصفية الآخر وسفك دمائه باسم الديمقراطية.
اضف تعليقا