ادخل وخذه بنفسك

ذهبت ذات يوم لأشتري نسخة من المصحف، وعندما وصلت إلى المكتبة طلبت من البائع أن يعطيني مصحفًا من القطع الوسط.

فقال: لست على وضوء، ادخل وخذه بنفسك.

قلت: لم أطلب منك أداء الصلاة! وإنما طلبت منك نسخة من المصحف!

قال: سمعت ما طلبت. ولكن لا أستطيع مس المصحف؛ لأني على غير طهارة.

قلت: عجبًا! وكيف تعمل طوال النهار؟ وهل كل من يريد مصحفًا يدخل ويأخذه بنفسه؟ وإذا لم يكن عميلك متوضئًا أيضًا، ويحمل قناعتك نفسها، فماذا تفعلان؟ هل تنتظران دخول رجل ثالث ورابع وعاشر حتى يحضر رجل متوضِّئ؟

قال: إن الله U قد نهى عن مسِّ المصحف بقوله: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [ الواقعة:79].

قلت: أخي الكريم! ألا تعرف الفرق بين أسلوب النهي وأسلوب النفي؟

قال: طبعًا أعرف!

قلت: قوله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} نهي أم نفي؟

قال: نهي طبعًا، ولذلك قال الفقهاء بحرمة مس المصحف لمن كان على غير طهارة.

قلت: أخي الكريم! تَريَّث قليلًا. فأنا أناقشك أنت، فاترك السادة الفقهاء بحالهم.

قال: الموضوع واضح وسهل، والنَّص صريح في النهي.

قلت: إذا سمحت أَعرب كلمة {لَّا يَمَسُّهُ}.

قال: لا: حرف نهي.

 يمسُّه: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية.

قلت: وما علامة جزمه؟

قال: السكون الظاهر على آخره.

قلت: إذا سمحت سوف أَدخلُ وأجلب نسخة من المصحف، لنرى علامة الجزم التي ذكرتها أنت.

وفعلًا دخلت، وأحضرت مصحفًا، وفتحت على سورة الواقعة آية (79) وقلت له: انظر؟ أرني أين علامة الجزم؟

فنظر إلى الآية، وتلاها بصوت عال، ثم سكت مندهشًا عندما شاهد أن فعل {يَمَسُّهُ} مضموم الآخر، ولا يوجد عليه سكون. وتدارك الموقف، فقال: من المحتمل أن يكون وجه من الإعراب، لا أعرفه أنا.

قلت: الأمر مقدور عليه أيضًا! فنحن في مكتبة إسلامية، وينبغي أن يكون عندك نسخة من كتاب إعراب القرءان.

قال: نعم! يوجد كتاب إعراب القرءان عندي.

قلت: أُحضره أنا، أم أنت؟

قال: بل ادخل أنت فأحضره، وهو موجود في الجهة العُليا.

وأشار إلى مكان معين، ودخلت وأحضرت الكتاب، وفتحت على إعراب سورة الواقعة آية رقم (79)

قلت: أتقرأ! أم أقرأ لك؟

قال: بل أريد أن أرى بنفسي.

قلت: انظر إلى هذا القول:

 لا: نافية لا محل لها من الإعراب.

يَمَسُّهُ: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به.

نظر إلى الإعراب مرة ثانية، وثالثة، وحاجباه يتحركان إلى الأعلى والأسفل، ثم قال: غريب والله هذا الأمر! مذ كنت صغيرًا، وأنا أسمع أن مسَّ المصحف حرام، ويتلون علينا هذه الآية.

قلت: العلم لا يُؤخذ من الأكثرية، ولا من تَقادم الزمن، ينبغي عليك أن تُحدِّث معلوماتك عندما كبرت، وتقوم بعملية إعادة تنشئة الأنظمة المعرفية من جديد.

قال: وما معنى الآية إذا لم تكن ناهية؟

قلت: إن الآية مرتبطة بالآيات التي قبلها وبعدها، فينبغي قراءة الآيات كلها، والوصول إلى المعنى المقصود.

قال: أخبرني بتفسيرها إن كنت تعرف ذلك؟

قلت: أخي الكريم! أعرف تفسيرها، ولكن المقام لا يسمح لذلك الآن، وسأكتفي بإعطائك صورة مختصرة عن المفهوم.

إن كلمة (المُطَهَّرون) غير كلمة (المُتَطَهِّرون)، فالتاء عندما تدخل في بداية الكلمة تُعطيها جهدًا، وتُسمى تاء الجهد، نحو قولنا: قرأ وتقرأ، درس وتدرس…..إلخ.

وكلمة (المُطَهَّرون) تدل على وجود صفة الطهارة بصورة لازمة، أما كلمة (المُتَطَهِّرون) تُفيد وصفًا لمن قام بعملية التطهير.

والنَّص استخدم كلمة (المُطَهَّرون) ليدلُّ على مجموعة من الناس، وصلوا إلى صفة الطهارة، وصارت لهم صفة لازمة، فإذا فهمنا أن حرف (لا) هو للنفي، وسياق النَّص يدلُّ على الإخبار، وكلمة (مُطَهَّرون) صفة لازمة، وصلنا إلى تشكيل مفهوم كلي، وهو:

 لا يَمُسُّ معاني القرءان، وحقيقتها، إلَّا ذوو التفكير الطاهر، والمستقيم؛ وبالتالي، تم نفي ذلك عن ذوي التفكير النجس، والمريض، والخرافي.

قال: بارك الله بك، لقد فتحت لي بابًا من العلم لن أغلقه بعد الآن، وسوف أحاول أن أدخل منه، وقام، وأخذ المصحف مني ضاحكًا، وقَبَّله ووضعه على رأسه!