سوف أرمي الماجستير في القمامة إن صح قولك
كنت في مسبح مع بعض الشباب، نمارس السباحة ونعرض أجسامنا لأشعة الشمس، وكما جرت العادة يتخلل جلساتنا ضحك، ومَرَح، وحوار، ونقاش، وينخرط شباب جدد في نشاطنا الرياضي والثقافي، وهكذا جاء أحدهم، وألقى السلام علينا، ثم سأل عني، فأشاروا إلى جهتي، فاقترب مني.
قال: أنا فلان أحمل شهادة ماجستير في اللغة العربية.
قلت: تشرفنا، أهلًا وسهلًا بك.
قال: لقد سمعت أنك تقول: إن كلمة (نساء) هي جمع لكلمة (نسيء)، هل هذا صواب؟
قلت: نعم! وما الخطأ في قولي؟
قال: لم ترد كلمة (نساء) جمعًا لكلمة (نسيء) أبدًا، وإنما هي جمع لا مُفرد لها من جنسها، وهي جمع لكلمة (امرأة) ليس من جنسها.
وانضم إلينا بعض الشباب، يسمعون ما يدور من حديث بيننا، وتَدَخَّل أحدهم، قائلًا: إنّ الأستاذ فلان، الذي يتكلم معك، يحفظ ألفية ابن مالك في النحو، كما أنه يحمل شهادة ماجستير في الشريعة، إضافة لماجستير اللغة.
قلت: ما شاء الله! وهل مطلوب مني أن أخضع له، وأُقَبِّل يديه؟ أم أرتجف خوفًا، وهلعًا، وأتلعثم أمام الشهادات؟
وتابعت حديثي قائلًا: ما المطلوب مني الآن؟ لقد سمعتُ رأيك، وأنتَ تعرف ما أراه صوابًا؟
قال الأستاذ: أريد أن أعرف كيف وصلت إلى هذا الرأي؟
قلت: سوف أختصر لك ما استعجم عليك فهمه.
أخي الكريم: لقد انطلقت من عدة نقاط، أهمها:
1- الواقع سابق والاسم لاحق، بمعنى أن المسميات توجد قبل أسمائها.
2- الجمع أمر لاحِق لوجود الفرد الذي يتعدد وجوده في الواقع، وإلا كيف تمت عملية الجمع؟.
3- الأصل في الجمع أن يكون مُشتقًا من مُفرد من جنسه، نحو قولنا: قلم، أقلام. جبل، جبال. فرد، أفراد.
وَوُجد في اللغة جمع لا مفرد له من جنسه نحو:
كلمة (الجيش)، وهي كلمة لا مفرد لها من جنسها، وقد أُطلِقت على مجموعة من المقاتلين لظهور صفة الجَيشان في نفوسهم، وهي مشتقة من كلمة (جَيَشَ). ولا يصح أن يُقال: إنّ مفرد الجيش هي كلمة الجندي. والصواب في واقع الحال، أنّ مفردها هو المقاتل لِتَحقُّق صفة الجَيشان في نفسه، على خلاف الجندي المستقر في نفسه.
وكلمة (نساء) جمع لكلمة (نسيء)، وهي من جنسها، واستُخدِمت جمعًا لكلمة (امرأة) لظهور صفة التأخير في المرأة على الغالب، فأطلق عليهن اسم النساء، وصفة التأخر تحققت في وقوفهن خلف قيادة الرجال غالبًا في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والعسكرية، فالرجال في المقدِّمة يدافعون عن النساء، ويُؤمِّنون لهن الحياة الكريمة، وتحفظ النساء الخطوط الخلفية للرجال، ومنهن يأتي المدد بالقوة المعنوية والمادية. فالعلاقة بين الرجال، والنساء، علاقة جدلية تكاملية، وليست تفاضلية، ولا مساواة، فالرجل أب، والمرأة أم، وكلاهما أبوان وفي الأصل إنسان.
قال الأستاذ: ولكن لم يرد في الخطاب العربي استخدام هذا الجمع لكلمة (نسيء).
قلت: وهل وصل لنا كل ما تم استخدامه في الخطاب العربي؟
قال: هذه هي المعاجم اللغوية الموجودة، ولم تذكر ذلك الجمع.
قلت: وهل أحاطت المعاجم بكل مفردات وجموع وأساليب العرب؟
قال: المفروض أن يكون كذلك.
قلت: الافتراض شيء والواقع شيء آخر، فالمعاجم ليست محفوظة مثل القرءان، وليست مقدسة، وليس لها صفة الكمال، فهي ليست أكثر من مُساعد على الدراسة، والقرءان حُجَّة على المعاجم، والعكس غير صواب.
وتشعب الحوار كثيرًا، وصار فيه تكرار وحشو، وصد، ورد، وتَدَخَّل الحاضرون في النقاش، ولم يتم حسم المسألة.
وغلب الانفعال على الأستاذ، وقام بعرض معلوماته التي يحفظها، ونقل آراء وأقوال النحاة، وغيرهم من الفقهاء. وتوجه أخيرًا في الحديث إلى شخصي.
فقال: ما ينبغي أن يتكلم الإنسان فيما لا يُحسن من العلوم، وأنا أتحداك أمام هؤلاء الشباب، والإخوة، وسأرمي شهادة الماجستير في سلة القمامة، إن ظهر لي أن كلامك صواب.
قلت: وأنا قبلتُ التحدي، وبيننا موعد سوف نجتمع فيه، مع من يريد من الحضور لنتابع الحوار.
فقام أحد الإخوة وقال: أنا سأرتب لكما موعدًا قريبًا بالتنسيق معكما.
وتابعنا نشاطنا الرياضي، وافترقنا على وعد اللقاء.
وذات يوم، وقع تحت يدي كتاب (لسان العرب)، فقلت في نفسي: لأنظر فيه، وأرى ماذا يقول عن دلالة كلمة (نسيء)، وفعلًا؛ فتحت الكتاب على مادة (نسأ)، وقرأت بهدوء، ووعي ما يسرده ابن منظور، فمن المعروف أن لسان العرب يميل إلى الإطالة في الشرح، حتى وصلت إلى مقولة وقفت عندها، وقرأتها عدة مرات وهي:
(يُقال: امرأة نسء ونُسوء، ونسوةٌ نِساءٌ، إذا تأخر حيضها، ورُجي حبلها فهو من التأخير،…) فذهلت عندما وجدتها بهذه الصراحة، وسررت بها كثيرًا، واحتفظت بالمجلد إعارة، حتى موعد الجلسة القادمة.
واتصل بي الأخ الذي حمل على عاتقه مسؤولية انعقاد الجلسة، وحدد الزمان والمكان، وعندما حان وقت الجلسة، ذهبت إلى المكان المتفق عليه، فرأيت مجموعة من الإخوة حاضرين، منهم من أعرفه ومنهم من لا أعرفه، ألقيت السلام على الجميع، وقعدت في أقرب مكان ظهر لي، وبعد وقت يسير جاء الأستاذ، ودخل بثقة، وكبَّر المشايخ! واتجه إلى صدر المكان، بعد أن تمَّ إخلاؤه له.
وبدأ الحديث حامدًا الله U، ومُصليًا على النَّبيِّ وآله وصحبه، ودعا الله Uوحمده على ما أنعم عليه من علم وفقه!
ثمَّ توجَّه بالحديث إلى شخصي قائلًا: أخي الكريم إنَّ الرجوع عن الخطأ فضيلة، والتمادي فيه رذيلة. فلا يمنعك الكِبْر والناس من أن ترجع إلى الحق.
قلت: أشكر لك نصحك! وقد قبلته مع عدم رفضي له سابقًا.
ولكن اعلم أخي الكريم! إنّ الحوار والنقاش بين اثنين لا يكون بالدعاء والنَّصيحة، وإنما بالبرهان والبيِّنة. وما أتيت إلى هذا المكان لتدعوَ لي! فإن ربي قريب مجيب الدعوات، ولم يضع بينه وبين خلقه أيَّ واسطة من الخلق.
قال: حسنٌ! اسمع! لقد سألت مجموعة من أساتذتي الذين يحملون شهادة الدكتوراه في اللغة، إضافة إلى علماء في اللغة قد درست عندهم في المساجد. كلهم قالوا: لم ترد كلمة (نساء) جمعًا لكلمة (نسيء)، وإنما جمعًا لكلمة (امرأة). وهذا يُلزمُك بالاعتراف بخطئك، والرجوع عنه.
وابتسم ابتسامة عريضة، ونظر إلى الجميع متباهيًا نافخًا صدره.
قلت: لن أُعيد النقاش معك وأُثبتُ لك صواب قولي بناء على منهجي الذي أتبناه في البحث، وإنما سأُجاريك، وأعرض عليك برهانًا أكيدًا عن طريق ما تُقدِّسه من الكتب والرجال! وفتحت كتاب (لسان العرب) وقرأت له الجملة المعنيَّة بالنقاش، فسكت مليًا، وهو مذهول! ثم قال: أعطني الكتاب؟
فناولته الكتاب، فنظر إلى عنوانه مرتابًا، وتأكد أنه فعلًا من أجزاء لسان العرب، وفتح على مادة (نسأ)، وبدأ يقرأ مدمدمًا، وظهر على وجهه التغير، إلى أن انتهى.
فقال: عفوًا! أريد أن أُجري اتصالًا هاتفيًا مع الدكتور الشيخ فلان.
فطلبت منه أن يكون الحوار بينهما على مسمع الجميع؟ فرضي وحَوَّل الجهاز إلى صوت المكبر.
رد الدكتور على المخابرة، وبعد أن تبادلا السلام، سأله صاحبنا: دكتور! ألم أوجِّه إليكم منذ بضعة أيام سؤالًا حول صواب جمع كلمة (نسيء) على (نِساء)، وقلتم: لا يصح ذلك، ولم يرد في المعاجم هذا الجمع؟
فأجابه الدكتور: نعم قد حصل ذلك، فما المشكلة؟ وأين السؤال؟
فقال صاحبنا: دكتور! بين يدي الآن كتاب لسان العرب، وقد أورد تحت مادة (نسأ) القول التالي: (وقرأه للدكتور)، ثم سأله؛ ما هو قولكم؟
قال الدكتور ببساطة: نعم! صحيح لقد أورد لسان العرب أن جمع كلمة (نسيء) هي كلمة (نساء)، ولكن هذا الجمع لم يتم استخدامه في الخطاب العربي!
فأجابه صاحبنا: شكرًا لك دكتور، وأنهى المخابرة.
والتفت إلى الجمع وقال مكابرًا: أرأيتم! لا يصح الجمع! ولو ذكره لسان العرب! لأن العرب لم تستخدمه في الخطاب.
قلت: أخي الكريم ليس هكذا يتم نقاش الموضوعات.
أولًا: النقاش بيننا كان على مسألة: النساء كجمع للنسيء موجود في اللسان العربي، أم غير موجود؟ وأنت نفيت وجوده، وجلبت معك أقوال سادتك، وتبين فيما بعد أن سادتك، وأنت معهم على خطأ! وقد ظهر بالدليل الذي أقررته بنفسك وجود هذا الجمع في لسان العرب.
ثانيًا: نحن نناقش مسألة صواب أو خطأ هذا الجمع لكلمة (نسيء)، ولا نناقش مسألة استخدام هذا الجمع عند العرب، أتم فعلًا، أم لم يتم، ولماذا؟
وبالتالي، فقد ثبت لدينا صواب جمع كلمة (نسيء) على كلمة (نِساء)، من خلال ورودها في لسان العرب. وهذا الأمر، هو محل النقاش والتحدي، أما عدم استخدام هذه الكلمة في الخطاب العربي، فهذه مسألة لا قيمة لها من الناحية العلمية، والبرهانية، لأسباب كثيرة؛ أهمها:
1- استخدام القرءان لكلمة على وجه مُعين، حُجَّة كافية لا تحتاج إلى من يقول بها من النحاة، أو ورودها في الشعر أو المعاجم.
2- إن قولك: لم يتم استخدام هذا الجمع، هو ادِّعاء بحاجة إلى بينة.
3- لم يوثق مؤرخونا الخطاب العربي كله، ولم يتعهد الله بحفظه، وبالتالي؛ ضاعت كوكبة من صور استخدام الكلمات لم يتم نقلها، وتعذر وصولها إلينا.
4- عدم الاستخدام سابقًا، لا ينفي صواب الاستخدام لاحقًا، مع العلم أن استخدام اللسان العربي من قبل أيِّ مجتمع لا يخلو من عجمة ضرورة لازمة لقصور الإنسان عن أن يكون قوله الحق.
5- الحُجَّة في نظام اللغة، وليس في استخدامها.
6- كل مجتمع عربي يستنبط صورًا محلية لاستخدام الكلمات غير موجودة عند مجتمع آخر، ويصدق ذلك زمانًا على المجتمع الواحد ومكانًا على المجتمعات المختلفة.
لذا؛ يا أستاذ الماجستير! قد خسرت الرهان، ولن أطلب منك تنفيذ وعدك برمي شهادتك في سلة القمامة، ولكن أطلب منك أن تتحرر من هيمنة الأشخاص، وعبادة التراث والإسناد، وقمت أريد الانصراف.
فطلب أحد الإخوة مني التريث والجلوس قليلًا، فجلست بناء على رغبته، والتزمت جانب الصمت.
وتكلم أخ آخر يريد أن يُهدِّئ الجو، فقال: المسألة ليست تحديًا، ولا نصرًا لفلان، وخسارة لآخر، ومن الخطأ أن يصل الإنسان في تحديه إلى هذا المستوى، الذي لا يحفظ فيه خط الرجعة، ويعد رأيه حقًا مطلقًا، وقد رأيتم بأم أعينكم الموقف المحرج الذي وضع الأستاذ نفسه فيه، ومع ذلك نقول للأستاذ: نحن كلنا طلبة علم وحق، وأينما كانت الحكمة؛ فنحن أحق بها.
ومسألة رمي الشهادة في القمامة، مسألة هزلية غير جادة، ما ينبغي أن يتم التعهد بها للغير، وكان الأَولى أن يعقد العهد على أساس الرجوع عن الخطأ، وتَقَبُّل الرأي الآخر، الذي ظهر صوابه. وشكرًا للجميع الذين حضروا النقاش.
اضف تعليقا