دلالة كَلمة قسط وأقسط

أ- قسط: إنَّ لمعرفة دلالة كَلمة (قسط) يجب معرفة دلالة أصوات الأحرف المُؤلَّفة منها الكَلمة:
فحرف (ق) يدلُّ على الوَقْف، والقَطْع للشّيء.
وحرف (س) يدلُّ على حركة متصلة حرة.
وحرف (ط) يدلُّ على دَفْع وسط.
وحسب ترتيب مجيء الأحرف مع بعضها، تدلُّ على صُورة دلالتها في الواقع؛ فمثلاً: كَلمة (سقط) بدأت بحرف (س)، وهُو يدلُّ على الحَرَكَة المتصلة بصورة غير محددة، وحرف (ق) جاء بعد حرف (س)؛ ليدلَّ على وَقْف هذه الحَرَكَة، وجاء بعده حرف (ط) ليدلَّ على الدَّفْع؛ فتكون دلالة كَلمة (سقط) هي: الوُقُوع للشّيء من مكان إلى أدنى منه، ونُلاحظ في عمليَّة الوُقُوع، كيف تحقَّق فيها دلالة أصوات الأحرف المُؤلَّفة منها؛ لأنَّ الوُقُوع لابُدَّ له ابتداءً من الحَرَكَة والوُقُوف، والارتطام.
فكَلمة (قسط) بدأت بحرف (ق)، ممَّا يدلُّ على أنَّ دلالتها ابتداءً، هي الوَقْف والقَطْع للشّيء، وبعد ذلك؛ جاء حرف (س) ليُحرِّك هذا الوَقْفَ بشكل سهل وليِّن، وجاء حرف (ط) ليدفع هذه الحَرَكَة نحو جهة ما بشكل وسط.
فإذا تمعَّنَّا في دلالة هذه الأحرف، بشكلها الذي جاءت به (قسط) نصل إلى أنَّ كَلمة (قسط) تدلُّ على توقيف الشّيء، وتحريكه بعد ذلك، ودفعه، وثقافياً تدل على تحديد الأمر وتحريكه ودفعه نحو الأمر المعني، فإذا استخدمناها في واقع الحال نُلاحظ أنَّها ظهرت بصُورة القسْمة للشّيء وتحديده، أو التَّجزيء له ثم دفع هذا الجزء دون أصله؛ قال تعالى: {وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً} (الجنّ 15).
أيْ الذين يقومون بالتّعامل في عمليَّة إسلامهم لله، بشكل مُقسط، فيأخذون منه ما يُوافق هواهم، ومصالحهم، ويتركون ما يشعرون أنَّه لا يُحقِّق مصالحهم (إسلام تقسيطي).
فكلمة(قَسط) فعل ثلاثي يتعلق بالإنسان نفسه، أما كلمة(أقسط) فهي فعل رباعي يتعلق بالآخر،مثل (كتب) و (أكتب)،واسم الفاعل لقَسط هو قاسط وجمعها قاسطون،أما اسم الفاعل لكلمة أقسط فهو مُقسط وجمعها مُقسطون.
فنقول: بيع التّقسيط؛ بمعنى تحديد ثمن السِّلعة وتجزئتها إلى أقسام، يتمُّ دَفْعها تباعاً (قسطاً قسطاً))، قال تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات 9).
إنَّ الحُكْمَ بين النّاس، قائم في أساسه على العدل، أمَّا تنفيذ هذا الحُكْم على أرض الواقع؛ فقد يتعذَّر تنفيذه جُملة واحدة في وقت واحد، فَحَضَّ الشّارع على عمليَّة التّقسيط في تنفيذ الحُكْم لما في التّقسيط من رَفْع الحَرَج، واليُسر للنّاس، وجَعْلهم يُؤدُّون واجبهم.
قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ } (الأحزاب 5).
وقال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشّهَادَةِ وَأَدْنَىَ أَلاّ تَرْتَابُوَاْ } (البقرة 282).
فبما أنَّ كَلمة (القسط) تدلُّ على التحديد والدفع كانت دلالة الآيات السّابقة، تدلُّ على أنَّ عمليَّة إرجاع نَسَب الولد لأبيه، هي الأقسط عند اللّه، بمعنى إرجاع الجُزء إلى أصله، في واقع الحال هُو عين الحقيقة؛ من حيثُ مُساواة الادِّعاء لمُقتضى الحال.
وكَذلك الآية الأُخرى، فهي تدلُّ على أنَّ عمليَّة كتابة وتوثيق المُعاملات الماليَّة بين النّاس، هي{ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ }؛ بمعنى هي الأَصْوَبُ والأَوْلَى لتحديدها ودفعها لاحقاً؛ لإرجاع الحُقُوق لأهلها.
قال تعالى { أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ} (المُمتحنة 8).
أيْ أنْ تقوموا بالتّعامل معهم بالمعروف، بشكل مُتتابع محدد من الصّلة، وعمل الخير.
قال تعالى: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ}(المائدة 42).
إنَّ أساس الحُكْم بين النّاس إنَّما هُو العدل، ولكنَّ تنفيذ هذا الحُكْم العادل، في الواقع لابُدَّ له من عمليَّة التّقسيط، فلذا؛ أمر الشّارع بمُباشرة الحُكْم بالقسط؛ وذلك لا يتحقَّق إلاَّ إذا سبقه حُكْم بالعدل؛ لأنَّ القسط هُو تنفيذ عَمَلي للحُكْم، فمن هذا الوجه؛ جاء الأمر بالحُكْم بالقسط من باب المآل للحُكْم العادل في الواقع.
ومن هذا التفريق بين الثلاثي والرباعي،قال المفسرون: قَسط جار وظلم،وأقسط عدل وساوى.وهو تفسير بمآل الكلمة في واقعها، وليس مفهومها اللساني.