مفهوم

الموت  والوفاة  وعذاب القبر

الموت حق لا خلاف فيه،{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ… }آل عمران185، وهو أمر مشاهد لكل ذي عين وبصيرة لا مفر منه،{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي برُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }النساء78، و يموت الإنسان ونحن ننظر إليه وبين أيدينا لا نملك للموت دفعاً له{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }{وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }الواقعة 83-85.

ونقف مشدوهين مما حصل لقد غادرنا “زيد” وبقي جسده أمامنا ملقى على الفراش دون حركة أو نفس، أين ذهب “زيد”؟

-{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42،

-{وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }النحل70

-{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }السجدة11

-{… وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }الأنعام93.

الموت: هو فقدان الفاعلية والحركة الذاتية. {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ }يس33، فإحياء الأرض هو إرجاع الفاعلية والإنتاج لها، والموت يظهر بصورتين :

  • مادية: مثل توقيف حياة الشيء وفاعليته كلياً دون تدخل الإنسان.
  • ومعنوية: مثل الإنسان الفاقد للفاعلية والإنتاج في الحياة ومعطل التفكير والحواس، فهو حي في جسمه ميت في نفسه.

القتل أيضا يظهر بصورتين:

  • مادية: زهق حياة الشيء وتوقيف نظامه كلياً بتدخل من قبل الغير.
  • معنوية: توقيف فاعلية الآخر ومنعه من ممارسة مهامه وكبت حريته.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة54، فقتل النفس في النص هو قتل معنوي بمعنى توقيف فاعلية الشهوات وكبتها وإلجامها، وليس القتل للنفس مادياً.

الحياة كلمة تدل على فاعلية ذاتية وحركة منضبطة منتجة، وتظهر بصورتين:

حياة مادية: متعلقة بصلاحية وفاعلية الشيء ذاتياً. مثل الكائنات الحية.

حياة معنوية: متعلقة بفاعلية الإنسان ثقافياً وإنتاجياً بشكل صالح وإيجابي، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }الأنفال24.

الجسم: هو اسم للقوة والحركة الحرة المجتمعة باتصال في كيان واحد.

الجسد: هو اسم للقوة والحركة الحرة المندفعة بشدة.

فعندما يكون الإنسان حياً نستخدم كلمة الجسم على كتلته الفاعلة التي يتحرك بها، وعندما يموت ويتوقف الجسم عن نظامه الحيوي نستخدم كلمة الجسد لتدل على دفع حركته عنه ونفيها، فالجسد هو كتلة قوية فاقدة الحياة والحركة.

إذاً؛الذي خرج من جسد زيد ونحن ننظر إليه هو نفسه وليس روحه كما هو شائع بين الناس خطأً، فالنفس هي محل التوفي، وهي التي غادرت الجسد وتركته خلفها، فالجسم مات، والنفس توفيت، وموت الإنسان هو خروج نفسه من جسده، والذي يحصل بعد ذلك هو خروج جنازتين:

أحدها:خروج الناس حاملين الجسد إلى المدفنة ( المقبرة الترابية) لدفنه في التراب ومن ثم يتحلل الجسد إلى عناصره الأولى الترابية، من التراب وإلى التراب.

الثانية: تحمل الملائكة النفس وتذهب بها إلى المقبرة البرزخية ( مستودع للأنفس) ويتم الاحتفاظ بها إلى يوم البعث والنشور، {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعونِ }{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }المؤمنون100

إذاً؛ النفس لا تهلك أو تفنى أو تتحلل إلى عناصر خلقها، وإنما تبقى في حالة سُبات وانتظار في ما وراء البرزخ دون الشعور بمرور الزمن أو طوله.

فنقول: إن النفس هي كائن سرمدي، بمعنى كائن مخلوق له بداية وليس له نهاية، هكذا خلقها الله وأرادها، وهي محل البعث والنشور من خلال خلق أجسام أخرى تناسب في بنيتها التغير الذي حصل على الوجود الكوني {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48، فتنزل النفوس في هذه الأجسام الجديدة فيظهر “زيد” من جديد إلى الحياة بكامل وعيه وشخصيته التي اكتسبها في الحياة الدنيا، فزيد هو النفس وليس الجسم، وما الجسم إلا مطية وأداة استخدام لزيد، ومثل ذلك كمثل الفارس والفرس، فالفارس هو النفس، والفرس هي الجسم.

وصلنا إلى أن الموت متعلق بالجسم وهو يهلك ويفنى ويتحلل إلى عناصره الأولى، وليس هو محل للتوفي، والنفس يتوفاها الله عن طريق ملك الموت ومن معه من الملائكة، فالموت للجسم، والوفاة للنفس، وتعلق الموت خطاباً بالإنسان إنما يقصد به توفي نفسه وخروجها من جسده، وتعلق خطاب الموت بالنفس {كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعونَ }العنكبوت57، إنما هو حين وجودها في الجسم، والموت لها هو خروجها من الجسم ووفاتها، وقتل النفس مادياً هو زهق حياة الجسم وإصابته بعطل غير قابل للإصلاح كبتر الرأس عن الجسم فتخرج النفس بسبب عطل الجسم ويتوفاها الله، وتَذَوُّق النفس للموت بمعنى أن الموت للنفس مرحلة مؤقتة وليست دائمة لأن التذوق هو تناول بعض من الشيء لاختباره، ولا يصح القول إن الجسد توفاه الله لأن التوفي للنفس فقط.

– قبر: كلمة تدل على توقف شيء وتجمعه بثبات وتكرار هذه الحالة.

– دفن: كلمة تدل على دفع شديد مع فتح منضم منته بستر واحتواء.

– الموت للإنسان: فصل النفس عن الجسد.

– الموت للنفس: هو إخراجها من الجسد وتوفيها.

– القتل للنفس مادياً: هو إصابة نظام حياة الجسم بعطل قاتل غير قابل للإصلاح فتخرج النفس منه ويتوفاها الله.

القتل للنفس معنوياً: هو نهيها عن الهوى وتزكيتها ، أو التهجم على كرامة الإنسان وتقييد حريته.

فكل النفوس تُقبر، بينما ليس كل الأجساد تُدفن لاختلاف صور موتها- حرق ، غرق…، وبالتالي كل مدفنة هي مقبرة، والعكس غير صواب، فيوجد مقبرة للنفوس ، ويوجد مقبرة للأجساد، والفرق بينهما أن النفوس يُحتفظ بها ولا تهلك أو تتحلل، بينما الأجساد تهلك وتتحلل إلى عناصرها الأولى من التراب وإلى التراب.

وصلنا إلى أن الوجود الإنساني يمر في بضع مراحل:

  • مرحلة الحياة الدنيا: وهي مرحلة خلافة واختبار وابتلاء.
  • مرحلة الموت: وهي الخروج من الحياة الدنيا إلى مرحلة الانتظار والسُبات.
  • مرحلة البعث والنشور والحساب: وهي مرحلة إرجاع النفوس إلى أجسام جديدة لتعود الحياة الفاعلة الواعية للنفوس وبدء الحساب.
  • المرحلة الرابعة والأخيرة: هي مرحلة الثواب والعقاب المتمثل بالجنة أو النار.

إذاً؛ مرحلة الموت ليست نهاية لحياة الإنسان ،وإنما هي مرحلة تذوق للموت وانتظار وسُبات مؤقت للانتقال إلى المرحلة اللاحقة.

والسؤال هنا: هل يوجد في مرحلة الموت للإنسان نعيم أو عذاب؟

لقد علمنا أن الجسد يُدفن غالباً في التربة ويتحلل إلى عناصره الأولى، ويصير مثله مثل أي عناصر موجودة في التربة، ولا فرق بين عناصر جسد زيد، وعناصر جسد عمرو، أو عناصر أي كائن حي، وهذا يدل على أن الجسد غير معني بنعيم أو عذاب، وبالتالي كل رواية أو حديث أو قصة متعلقة بعذاب الجسد في المدفنة هي خرافة وليست حقيقة.

وهذا يوصلنا إلى أن محل الدراسة هي النفس لأنها لا تهلك أو تتحلل إلى عناصر خلقها الأولية، فهل تنعم النفس أو تتعذب في مرحلة السُبات والانتظار في مقبرتها البرزخية؟

وهذا أمر لا يخضع للتجربة أو التفكير وإنما يخضع لإخبار الخالق لنا عن هذه المرحلة وما يجري فيها من أحداث ،وهذا يقتضي الخطاب القطعي الثبوت مصدرياً إلى الخالق، وهذا غير متحقق إلا بالخطاب القرءاني فقط ، لذا؛ ينبغي استبعاد أي رواية أو قصة أو حديث أثناء الدراسة، والقطعي الدلالة لأن الأمر لا يحتمل الظن، ومفهوم قطعية الدلالة لا يعني وجود المفهوم بمنطوق النص صراحة، وإنما ممكن أن يكون فهماً من مقتضى الخطاب أو لوازمه عقلاً ومنطقاً، ولابد من جمع النصوص المتعلقة بالموضوع وتشكيل مفهوم كلي منها.

لنرى ماذا عرض الخطاب الإلهي عن هذه المرحلة.

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقونَ }آل عمران169.

يوجد في النص مجموعة من الأمور وهي:

  • إثبات وقوع القتل على الإنسان.
  • نفي الموت عنه.
  • إثبات الحياة له.
  • الحياة ليست في الدنيا وإنما عند ربه.
  • إثبات تلقيه للرزق.

إذاً؛حالة السُبات والانتظار في مرحلة الموت ليست عامة لكل الناس، وحياة المقتول في سبيل الله صورة من صور الحياة بعد الحياة الدنيا وقبل الحياة الآخرة، وهي حياة مؤقتة أيضاً، وسميت حياة برزخية وهي خاصة لمن يُقُتل في سبيل الله    ( سبيل الحق والخير والصلاح بصرف النظر عن وسيلة القتل أو المكان ).

ولنحلل مفاهيم النص:

قتل الإنسان مادياً هو زهق حياة الجسم بسبب عطل قاتل غير قابل للإصلاح، وبالتالي خروج النفس منه ضرورة، وهذا الخروج إن كان لإنسان عادي فهو توفي لنفسه ووضعها في مقبرة برزخية، وإن كان الإنسان قُتل في سبيل الله لا تتوفى نفسه وإنما تنتقل فورياً إلى حياة أخرى جديدة خارج الحياة الدنيا ( عند ربه)، وهذا يعني أن المقتول في سبيل الله ليس ميتاً، بمعنى عدم توفي نفسه إلى المقبرة البرزخية، وإنما هو في حياة حقيقية وليست معنوية بدليل كلمة (يرزقون) وهي تدل على التلقي للعطاء الحسن والاستمتاع به بوعي وهذا يقتضي وجود جسم خاص يصلح لهذه المرحلة البرزخية يستخدمه المقتول في سبيل الله لأن النفس لا تتلقى الرزق بذاتها ولابد لها من جسم لتظهر من خلاله وتتفاعل به، ونصل إلى أن ليس كل من قُتل هو ميت لإمكانية متابعة حياته في غير مرحلة الحياة الدنيا، وليس كل ميت مقتول لوجود حالة الموت الطبيعي.

لنقرأ قوله تعالى عن النبي يحيى:

{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً }مريم15.

الخطاب الإلهي هذا نزل على النبي محمد أي بعد انتهاء الحدث ومضي التاريخ ويتكلم عن أخبار النبي يحيى، إذاً هو إخبار عن الماضي.

لاحظوا كلمة( يوم وُلد) تخبر عن حصول الحدث في الماضي، بينما نرى كلمة     ( ويوم يموت ويوم يُبعث حياً)  أتت بصيغة الفعل المضارع لتدل على نفي حصول الحدث في الماضي وأنه سوف يحصل لاحقاً، وهذا يدل على أن النبي يحيى لم يمت بعد وإنما هو حي، ولكن الواقع يقول إن النبي يحيى ليس موجوداً في الحياة الدنيا وقد غادرها، وكل إنسان يعيش في جيله فقط {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }الأنبياء34، وهذا يدل على أن النبي يحيى قد قُتل في سبيل الله وهو حي يُرزق عند ربه ولم يمت بعد، وسوف يموت عندما يأذن الله بانتهاء المرحلة الثانية وبدء مرحلة البعث والنشور ويأخذ قانون الموت مجراه {كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57، انظروا لهذا النص على لسان النبي عيسى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }مريم33، نلاحظ أن المتكلم هو النبي عيسى نفسه وذلك في بدء حياته، لذا؛ أتى النص بصيغة الماضي للولادة (يَوْمَ وُلِدتُّ) ، وبصيغة المضارع لموته و بعثه (وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) وهذا دليل على موت النبي عيسى في الحياة الدنيا بشكل طبيعي ونفي موته بواسطة القتل أو الصلب له، وبدليل وفاة نفسه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }المائدة117، والوفاة للنفس لا تكون إلا من خلال مغادرة الجسم الترابي لفقدانه صلاحية الاستمرار،{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42،فالتوفي النهائي للنفس لا يكون إلا بصورة الموت للإنسان وذلك بفصل نفسه عن جسمه.

إذاً؛ المقتول في سبيل الله ليس ميتاً ،وإنما هو حي يُرزق عند ربه في حياة برزخية مختلفة عن الحياة الدنيا، وهو الآن خارج الحياة الدنيا ومقطوع الصلة بها أو التواصل، وسوف يموت لاحقاً بالأمر الإلهي بالموت العام لكل الكائنات الحية.

فالمرحلة الثانية للإنسان بعد مغادرة الحياة الدنيا مختلفة بصورها حسب وسيلة خروج الإنسان من الحياة الدنيا، فمن خرج مقتولاً في سبيل الله فهو ينتقل انتقالاً من حياة إلى حياة، ومن جسم ترابي إلى جسم برزخي يصلح للمرحلة الحالية ليستخدمه في تلقي الرزق والعيش به، فهل يوجد صور أخرى للحياة في مرحلة البرزخ لغير من يُقتل في سبيل الله؟

لنقرأ الخطاب الإلهي بوعي وموضوعية.

-{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} غافر46

-{فَكَيفْ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }محمد27

-{… وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }الأنعام93.

الملاحظ من النصوص إن نفوس الظالمين والمجرمين تتوفاهم الملائكة وهي تضرب وجوههم وأدبارهم ذلاً و إهانة لهم، ويعرض فرعون وأتباعه على النار غدواً وعشياً قبل أن تقوم الساعة، وهذا يدل على وجود العذاب المتعلق بالنفس في المرحلة البرزخية، وهذا خاص بالمجرمين وعلى رأسهم فرعون من باب أولى، وهذا لا علاقة له بالحساب، ولا يصح القول أن العذاب قبل الحساب ظلم، والعدل يقتضي أن يكون العذاب بعد الحساب ، فهذا كلام عام صواب وينطبق على كل الناس، إلاّ على فرعون والمجرمين وأتباعه فهم يبدأ عذابهم منذ وفاة أنفسهم، وهذا العذاب ليس هو العقاب المحدد لهم بعد الحساب، وإنما هو من قبل الملائكة الموكلين بهم لمعرفتهم بإجرامهم واشتهارهم به فيتلقون العذاب النفسي والضرب حين الوفاة، وبعد الوفاة يُعرضون على النار مرتين، ومثلهم مثل رجال الشرطة والأمن عندما يعتقلون مجرماً مشهوراً بإجرامه فهم يضربونه ويذلونه فور اعتقاله وأثناء انتظار محاكمته، وهذا لايُعد ظلماً لأن المجرم لا احترام له ولا حقوق تُحفظ ، فقد أهدرها كلها بإجرامه { وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }القصص78، ففرعون وأتباعه والمجرمون لا يُسألون عن ذنوبهم لوضوحها وخُبثها وشدة ضررها على الناس وظهور أثارها في المجتمع، فهؤلاء لا احترام لهم ولا حقوق تحفظ ولا تطولهم الرحمة.

أما العصاة من عامة الناس فيرون أعمالهم ونتيجتها وقبحها وسوئها فيصيبهم غماً وحزناً فتثبت هذه الصورة القبيحة في نفوسهم وهم في حالة السُبات في قبرهم البرزخي  إلى أن يأذن الله بقيام الساعة.

وكذلك يرى المؤمنون والصالحون نتيجة أعمالهم وحسنها فيصيبهم السرور والسعادة وتثبت هذه الصورة إلى أن يأذن الله بقيام الساعة.

وكما لفرعون وأتباعه عرض على النار مرتين، كذلك يوجد عرض لكبار المؤمنين والقادة الراشدين الصالحين وأتباعهم على الجنة مرتين من باب أولى.

فالنعيم والعذاب للإنسان الميت متعلق بنفسه وليس بجسده، وفي القبر البرزخي وليس بالقبر الترابي.

وشكراً لحسن إصغائكم

صالون السيدة رباب الكزبري

دمشق 2008