الوصية هي الأصل في توزيع الثروة
الدارس للقرءان يجد أن المشرع أعطى الحق والصلاحية للإنسان في تحديد توزيع ثروته بعد وفاته حسب علمه باحتياج كل من أبنائه ووالديه وأقربائه وغيرهم، يتوخى في ذلك العدل بينهم وفيهم، وليس المساواة، وذلك بكتابة الوصية والإشهاد عليها، {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ } (المائدة106)
وقد حض عليها لدرجة أن بعض الفقهاء جعلوا كتابة الوصية واجب، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة180)، لأن الإنسان سواء أكان ذكرًا أم أنثى هو أدرى باحتياج أفراد أسرته بحكم تعايشه معهم، وكون صور الاحتياج مختلفة بين الناس بشكل كبير جدًا، فيقوم بتقسيم ثروته بالعدل حسب حاجة كل من الأشخاص؛ لأن أحكام الميراث هي صور محددة ثابتة لا يمكن أن تغطي صور احتياج الورثة؛ لأن ذلك نسبي ومتفاوت فيما بينهم ومتغير، ولا تحقق العدل الشخصي، وإنما تقوم على العدل الاجتماعي وتفتيت الثروة، وهذا يقتضي وقوع الظلم على الفرد، ولذلك حض المشرع على الوصية لتحقيق العدل الشخصي بين أفراد الأسرة.
{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا } (النساء11)
لاحظوا أن النص بدأ بطلب الوصية في الأولاد وأعقبها قسمة الميراث، وكل ذلك بعد تنفيذ الوصية ولذلك أتت كلمة(مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ليعلمنا أن وفاء الدين والوصية هي الأصل وتنفيذها هو الأولى، وفي حال بقي من الثروة شيئًا يتم الانتقال إلى قسمة الميراث.
وقد حض النبي على كتابة الوصية قبل أن ينام الإنسان، وذلك ليضمن حقوق الناس المالية، ويشجع على فعل الخير والتبرع لصالح المجتمع وتنميته، وتتم القسمة بالعدل بين الأقرباء حسب حاجتهم، فقال(1): « مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ » البخاري ومسلم .
وما ينبغي على الموصي أن يحرم أفراد أسرته من الثروة ويتبرع بها كلها{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا }(النساء9)، ولا بأس بالتبرع بجزء منها لصالح المجتمع وتنميته لا يتجاوز الثلث وهو نسبة كثيرة أيضًا.
«عن عامر بن سعد عن أبيه، قال: عادني رسول الله في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت.
فقلت: يا رسول الله إنه بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟
قال: لا.
قلت: أفأتصدق بشطره؟
قال: لا؛ الثلث؛ والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك.
قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟
قال: إنك لن تخلف فتعمل عملًا صالحًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون» البخاري ومسلم .
وهذا المفهوم للوصية يجعل صاحب الثروة والممتلكات مسؤولًا في حياته وبعد وفاته عن ثروته وتوزيعها بين أبنائه وأقاربه بالعدل، وبالتالي لم يعد يوجد أي قيمة لاعتراض الأفراد على نفي العدل في قسمة الميراث بينهم، لأن الذي أوصلهم إلى مرحلة الميراث هو والدهم أو والدتهم عندما أهمل أحدهم أو كلاهما كتابة الوصية وتوزيع الثروة بمعرفتهم وبصورة عادلة بين الأفراد، فالخطأ من والدهم أو والدتهم وليس من التشريع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر الأحاديث ليس من باب أنها مصدر ديني تشريعي بقدر ما هي مصدر معرفي أخلاقي تابعة للقرءان بين يديه لا تتجاوزه ولا تستدرك عليه، ومحكومة به ومؤطرة بإطاره مع استغناء القرءان عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابي رؤية قرءانية في مواضيع اجتماعية
اضف تعليقا