الحرية كلمة الله العليا

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40

مفهوم ( الكلمة) التي تجمع على كلمات غير مفهوم (الكلام) التي مفردها (كَلِم)، تعالوا نرى ما مفهوم (كلمة) في القرءان.

{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }آل عمران45

لاحظوا أن دلالة الكلمة في النص هو النبي عيسى نفسه، وليست لفظاً أو قولاً.

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الفتح26

كلمة التقوى في النص ليست هي لفظاً أو قولاً يصدر من الفم، وإنما هي موقف موضوعي مقابل موقف الكافرين، والزم الله المؤمنين أن يكونوا متقين الانفعال الأهوج والحمية الجاهلية، وان يلتزموا بالوعي والعدل والسلم والحرية والإنسانية ويتقوا الانفعال والكراهية والإرهاب وكل ما يمت للجاهلية من مواقف.

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنعام115

كلمة الله لا تُبدل ولا تُحرف وهي صدق وعدل ، بينما كلام الله يمكن أن يتحرف أو يتبدل كما يفعل الكهنوت في تفسيره وإخراجه عن معناه {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }البقرة75

فكلام الله يُسمع، وكلمات الله تُرى لأن لها وجود موضوعي من موقف أو أمر أو حدث.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }الأنفال7

فكلمات الله هي الوجود الكوني بما فيه من قوانين تحكمه، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }الكهف109، فخلق الله مستمر ومتنامي {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }النحل8، {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }الذاريات47، والإنسان كجنس هو من كلمات الله مخلوق بسنن تحكمه، ونفخ فيه من روحه وكرمه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر29،{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }الإسراء70، وجعله خليفة في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30، وصار الإنسان خليفة بمنحه الحرية التي هي كلمة الله في النفس الإنسانية وعلى موجبها يتم الحساب والمسؤولية، والحرية والكرامة هما حاجتان حتميتان للنفس فطرة، وبناء عليهما تم جعل الإنسان خليفة في الأرض ، وبناء عليهما نزل القرءان خطاباً للناس وحمَّلهم المسؤولية، لتصير الحرية مسؤولية، إذاً؛ الإيمان بكلمات الله هو الإيمان بالوجود الموضوعي بسننه التي تحكمه، وهذا غير الإيمان بكلام الله الذي أنزله للناس عن طرق الرسل، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }التوبة6.

فالإيمان بكلمات الله يتضمن الإيمان بفطرة الإنسان غرائزاً وحاجات على صعيد النفس والجسم كحق موجود ينبغي التعامل معه وعدم الكفر به.

وحاجيات النفس التي أودعها الله فيها هما الحرية والكرامة، مثل الحاجيات العضوية التي أودعها الله في الجسم التي هي عملية التنفس، والأكل والشرب، والنوم، وطرح الفضلات على أنواعها، والإشباع للحاجيات حتمي ، وعدم إشباعها يؤدي إلى هلاك الإنسان وموته، فإن كانت الحاجيات عضوية فالموت والهلاك مادي ويظهر بزهق الحياة المعيشية، وإن كانت الحاجيات نفسية فالهلاك والموت معنوي ويظهر بذل النفس واستعبادها والإكتئاب وانتفاء التفاعل والفاعلية والتفكير عن الإنسان، ويصير جسماً متحركاً ميتاً نفسياً (الميت الحي).

وبهذا وصلنا إلى شرح النص المعني وهو {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40، فكلمة الذين كفروا هي موقفهم الإجرامي من الحق حيث اختاروا الكفر بحرية الناس ومحاربتها وإكراههم على أن يكونوا معهم ضد الحق، فتكون كلمة الله مقابل كلمة الذين كفروا وهي تفعيل الحرية عند الناس وتركهم أحراراً ليختاروا ما يشاؤون ، وهذا واضح بقوله تعالى{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256، وبقوله : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29

فالإكراه والاستعباد والاستبداد هو كلمة الذين كفروا، والحرية والمسؤولية والمشاركة في الحكم هي كلمة الله العليا.

لذا؛ الشعار الذي يرفعه الشعوب (حرية ، حرية ) هو رفع لشعار كلمة الله العليا والإيمان بكلماته، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وكذلك الشعار (سلمية، سلمية) هو رفع لأمر الله بالسلم والأمان{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }آل عمران19، ورفع شعار التعايش والتعاون والاحترام والوطنية ورفض العرقية والطائفية هو رفع شعار رباني{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.

فأي إنسان يرفع شعار الحرية والسلمية والتعايش والتعاون والمحبة …هو إنسان رباني يؤمن بكلمات الله، فإن قُتل في سبيل ذلك فهو شهيد عند الله وعند الناس، وتظهر الحرية من خلال حرية الآخرين، فبقدر ما الآخر حر فأنت حر، لأن الحرية مفهوم اجتماعي، فلا يمكن أن يكون مجتمع حر فيه أفراد عبيد، ومجتمع العبيد إن وُجد فيه حراً حرك حرية المجتمع كله، وأزمتنا أزمة غياب مجتمع حر راشد، وليس غياب حاكماً حراً راشداً، لأن المجتمع الحر الراشد ينتج عنه حاكماً حراً راشداً، والعكس غير صواب، وإذا صار المجتمع حراً راشداً سرعان مايتخلى الحاكم المستبد والمستعبد عن حكمه إما إلى الرشاد أو التنحي عن السلطة.

لذا؛ ينبغي على المتطرفين الذين يحرفون كلام الله أن يكفوا عن جهلهم وتصورهم إن كلمة الله العُليا هي الإيمان بالدين الإسلامي! ونشر بين الناس إن كلمة الله العليا هي الحرية والكرامة، وسواء آمن الناس بالإسلام أم لم يؤمنوا فهم يرفعون كلمة الله العليا الحرية ، ويؤمنون بكلمات الله.