الأرض المقدسة

إن مفهوم القداسة يدل على العظمة والطهارة والفضل الكبير، وعندما يُطلق هذا المفهوم على أحد، فهو لتحقق هذه الصفات به، أمّا إسباغ صفة القداسة على أرض معينة، فهذا لا يكون إلا للخالق – تبارك وتعالى -، لأن وصفه حقيقي، بخلاف وصف الناس لبعض الأشياء، فهو خاص بتصورهم، لا حقيقة له على أرض الواقع.

والأرض المقدسة، ينبغي أن تتفرد بصفات ذاتية ترفعها عن جمودية الأشياء، وأن تُشفَع هذه الصفات بأحداث إنسانية تاريخية هامة للمجتمع الإنساني كله تشهدها هذه الأرض، والدارس للنص القرءاني يجد أن الصفات هذه، قد تحققت في بلاد الشام الكبرى وظهرت في مكة خاصة، اقرأ قوله تعالى: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام 92).

وأول بيت وُضع للناس ليكون قبلة صلاتهم، وجهة حجهم، هو بيت الله الحرام في بكّة، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (آل عمران 96)، وكان جميع الأنبياء والرسل يحجُّون إلى هذا البيت، ويتوجهون في صلاتهم إلى جهته، انظر قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران 97).

وقوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج 27).

وقد أُقيم بيت الله الحرام في واد بمكة، اقرأ قوله تعالى على لسان النَّبيِّ إبراهيم:

{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم 37) فيكون هذا الوادي، هو الوادي المقدس في قوله تعالى خطاباً للنَّبيِّ موسى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى} (طه 12)، لأن قداسة الوادي أتت من مركزيَّته، وبناء بيت الله فيه، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وحصول الأحداث التاريخية الهامة، وكونه مركزاً لانطلاق دعوة الأنبياء والرسل، وقبلة لصلاتهم، وحجهم.

وبالتالي، فبلاد الشام الكبرى ومكة خاصة هي الأرض المقدسـة في قوله تعالى على لسان النَّبيِّ موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة 21).

 لذا، لا يوجد أرض مقدسة إلا بلاد الشام الكبرى ومكة خاصة لما اتصفت به من صفات ذاتية، وبناء بيت الله فيها، وجعلها مركزاً لعملية بث الناس منها، وعودتهم للحج (البك والمك)، وقبلة صلاة الناس.