أم القرى
مفهوم كلمة (أم) يدل صوتياً على ظهور خفيف زمكانياً مع إثارة وامتداد لطيف منتهي بجمع متصل، وظهر عملياً بمعنى القصد والمرجع والمركز والأصل.
ومنه ظهر كلمة الإمام، لأنه مركز وأصل لحركة الناس ويقصدونه باتباعهم، وظهرت كلمة (الأُم)، لأنها هي الأصل والمركز والأصل لأولادها تجمعهم بشكل متصل، ومنه الأمة وهي التجمع المتصل وفق مفاهيم وثقافة معينة تقصدها وتتبعها…
القُرى جمع قرية وأصلها من فعل (قرر) ومفهومها الصوتي يدل على توقف شديد مكرر، فإن دلالة صوت القاف هو التوقف ودلالة صوت الراء هو التكرار.
القاف: قف – قامَ – قطع – طرق – دق – حق.
وكلمة حق كلمة تدل على تأرجح شديد منضبط (وهو دلالة صوت الحاء)، منته بقطع شديد (وهو دلالة صوت القاف) نحو:
حقَّ القول مني، إذا استقر على أمر واحد دون غيره بشدة وقوة، ومن ذلك سُميت الحُقوق.
وعند إضافة صوت الألف لكلمة (قرى) أعطاها بُعداً زمكانياً من الحركة والإثارة، وظهر ذلك عملياً في تجمع الشيء مع بعضه بقوة وبشكل مكرر متنامٍ، وظهر صورة الجمع لهذه العملية، فقالوا: قرى الماء، إذا اجتمع مستقراً بشكل مكرر في حوض كبير، وقالوا: قرى الناس، إذا اجتمعوا مع بعضهم بقوة وبشكل متنامٍ مستقرين على جمعهم وممتدين بهذا الشكل.
ومن ذلك المفهوم والمعنى ظهر اسم القرية ليدل على توقف انتقال الناس واستقرارهم وتجمعهم أو تكتل مجموعة كبيرة من الناس بشكل متنامٍ باستقرار وامتداد بحركة تستوعب الزمان والمكان.
ومفهوم القرية يشمل التجمع الزراعي المعروف باسم الريف، والتجمع الذي يقوم على التجارة والصناعة والتعليم، ويقوم على المؤسسات والمرافق المعروف باسم المدينة بصرف النظر عن تعدد تلك المرافق والمهام أو تقلصها وبدائيتها، بخلاف معنى كلمة البدو فهي مقابل مفهوم كلمة القرية، لأن البدو هي تجمعات بشرية محدودة متحركة غير مستقرة في زمان ومكان معين، ولذلك لا يمكن أن تؤسس حضارة أو نهضة، وهي تدور في فلك القرى التي تقيم مؤقتاً بجوارها أو ضمن نطاقها ولا تستغن عنها.
وهذا يعني أن مفهوم القرية ليس مدحاً ولا ذماً بحد ذاته، وإنما هو مفهوم جغرافي اجتماعي يشمل نمطين من المعيشة الريف والمدينة، والعلاقة بينهما تكاملية لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر.
لنقرأ كيف استخدم القرءان كلمة (القرية):
دلالة كلمة القرية عام يطلق على التجمع الصالح أو التجمع الكافر المجرم
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} النحل112.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} الأنبياء11.
القرية هي تجمع بشري في جغرافية معينة بشكل مستقر ممتد زمكانياً ما يسمى بالاصطلاح المعاصر (دولة) مهما صغرت.
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} محمَّد13.
فمكة هي قرية (دولة صغيرة).
قانون هلاك القرى:
{وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الكِتَابِ مَسْطُوراً} الإسراء58.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} الحجر4.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء16.
كل قرية تقوم وفق نظام معين ولها عمر اجتماعي يساهم المجتمع ومؤسساته في إطالة عمر قريتهم (الدولة) أو تقصيره ودفعها نحو الهلاك والتدمير الذاتي، وذلك من خلال المفاهيم الاجتماعية التي تقوم على العدل والخير والصلاح والإنسانية، فالقرية التي تقوم على الظلم والفساد تسير في طريق التدمير الذاتي، والمسألة مسألة وقت، ويأخذ قانون هلاك المجتمعات مجراه ويدمر القرية.
فلذلك القرية التي لا تغيِّر ما بنفسها يتم إهلاكها وتغييرها بشكل كارثي تدميري، فغيِّروا ما بأنفسكم وخذوا زمام ذلك التغيير، ووجهوه نحو الخير والرشاد قبل يتم تغييركم كارثياً وتتدمروا وتذهب ريحكم ويأت قوم غيركم.
ومن يقرأ التاريخ يجد أن كل دولة قامت قرون أو عقود وأجيال بشكل متفاوت فيما بينها ، ولكن نهاية أدركها قانون الهلاك وهلكت عندما تجذَّر الفساد فيها وترسخ واستحال إصلاحها.
والقرية التي تهلك لا ترجع مرة ثانية، لأنها أخذت فرصتها فلا بُدَّ من ركمها في ذاكرة التاريخ ليتم السماح للتطور وظهور غيرها، وهذا قانون الدفع للناس المعروف.
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} الأنبياء95.
{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} البقرة251.
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج40.
وفعل الإنذار نهاية بعد كمال الدين يكون لأم القرى، وليس لكل قرية على حدة. {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} الفرقان51.
الإنذار السابق كان لكل قرية
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} الأعراف94.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} الشعراء208.
دلالة كلمة المدينة خلاف دلالة كلمة الريف، بمعنى أن المدينة من مَدَن وهي مركز جغرافي وتجمُّع بشري يقوم على البناء والصناعة والمهن أو تجاري ومؤسساتي رئيس في القرية، والقرية تتألف من مدينة وريف كحد أدنى بصرف النظر عن تعدد المدن أو عدمه.
أي: أن التسلسل الهرمي من الأصغر للأكبر هو:
ريف – مدينة – قرية.
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} المنافقون8.
{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} الأحزاب60.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يوسف30.
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} الكهف19.
وهذا يوصلنا إلى أن كلمة (أم القرى) تعني: قرية كبيرة تقوم على قرى تزيد أو تنقص فيها حسب حركة التاريخ، ولكن تبقى نهاية تابعة لبعضها بعلاقة تاريخية جغرافية ثقافية (أمة)، وهذه الأم تحقق فيها صفة المركزية والأصل والمقصد والمرجع تاريخياً واجتماعياً وثقافياً لبقية القرى.
نأت الآن لفهم نصِّ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} القصص59.
عندما يقول أحدهم: ذهبت إلى سورية، لا يعني أنه ذهب لكل جزء فيها وإنما لمدينة من مدنها، وهذا فهم منطقي واقعي يفرضه مقتضى الحال، وكذلك معنى كلمة (حتى يبعث في أمِّها رسولاً) لا يعني كل جزء من القرية الأم، وإنما في جزء منها، ويصح القول: إنه أرسل في أمها رسولاً، كمن يقول: أرسل الملك إلى سورية سفيراً لبلاده، وعملياً السفير أتى لمدينة واحدة من المدن السورية.
إذاً، تم بعث الرسول في أم القرى، وبالذات قرية مكة وهي جزء لا يتجزأ من أم القرى، ولا يصح إطلاق عليها اسم أم القرى، لأن أم القرى مركز وأصل ومرجع للقرية.
ومكة هي قرية تابعة لأم بشكل لازم لا تنفك عنها جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، وتم نزول القرءان وبعث الرسول في أم القرى بقرية مكة.
فمن هي أم القرى؟
اضف تعليقا