اليمن الكبرى وبلاد الشام الكبرى

   الملاحظ في شبه الجزيرة العربية أنها انقسمت إلى نصفين: قسم جنوبي أطلق عليه اليمن، وقسم شمالي أطلق عليه الشام، فللنظر إلى جغرافية شبه الجزيرة العربية:

– يقول أحمد حسين شرف الدين في كتابه: اليمن عبر التاريخ:

تقع اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ويحدها شمالاً الحجاز ونجد، وجنوباً البحر العربي، وشرقاً الخليج العربي، داخلاً فيها الربع الخالي الذي تبلغ مساحته 250,000. ميل مربع، وغرباً البحر الأحمر.

– المؤرخ والجغرافي اليمني أبو محمَّد الحسن بن أحمد الهمداني صاحب (صفة جزيرة العرب) توفي بعد سنة 360 هـ، وقد جعل حدود جنوب شبه الجزيرة تبدأ من الكعبة بمكة جنوباً.

  • وفي معجم البلدان لياقوت الحموي:

الخُلصة بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، وهو صنم لهم، أحرقه جرير بن عبد الله البجلي حين بعثه النَّبيُّ، وقيل: هو الكعبة اليمانية التي بناها إبراهيم بن الصباح الحميري، وكان فيه صنم يدعى الخلصة فهدم، وقيل: كان ذو الخُلصة يسمَّى الكعبة اليمانية، والبيت الحرام الكعبة الشامية.

– ومن موقع ويكيبيديا:

Al- Yaman significantly plays on the notion of the land to the right, when in Mecca facing the dawn, complementary to Al-Sham.

والترجمة تقول: إن تسمية اليمن تأخذ فكرة الأرض التي على اليمين، بينما مكة تواجه المشرق، تكملة لبلاد الشام.

وحسب جغرافية شبه الجزيرة العربية تكون مكة في الجزء الشمالي منها؛ ما  يعني أنها جزء من بلاد الشام مثلها مثل دمشق وحلب وإيلياء وبغداد… إلخ، وهذا التقسيم كان موجوداً لكن بصورة غير دقيقة.

وإن بحثت في محرك البحث google وكتبت (حدود دولة إسرائيل الكبرى) سترى أن دولة الكيان الغاشم في فلسطين يحدها في الجنوب مكة، وفي الشمال تدخل الحدود إلى تركيا، وما أبعد من جبال طوروس، وفي الشرق إلى حدود فارس، والغرب تأخذ قسماً كبيراً من القبط، وطبعاً هذا تقسيم احتلالي غاشم.

لكن المقصد أن الفكرة مطروحة ومعلومة من قبل النخبة السياسية ويعلمون ما تعني بلاد الشام، لكن أرادوا لهذه البلاد التشتت وتشويه الاسم والتاريخ. وهذا يُوصلنا إلى أن مفهوم (أم القرى) يتعلق ببلاد الشام ككل فهي أم القرى، وفعلاً بُعث الرسول فيها ونزل القرءان فيها، وهذا يقتضي أن يكون حصل بجزء منها ضرورة، وهو مكة، كما هو ثابت تاريخياً.

ولذلك نشاهد النَّصَّ القرءاني يصف جغرافية بلاد الشام ككل ويتناول أحداثها، ونزل النَّصُّ القرءاني بأفصح لسان في بلاد الشام وأكثره تطوراً ولم ينزل بلهجة قريش، ولذلك نشاهد كلمات كثيرة متمدنة في الخطاب القرءاني وغير مستخدمة في قريش، فظن بعض المفسرين أنها كلمات أعجمية مثل استبرق، أباريق، إبراهيم، إنجيل، توراة، زنجبيل، سجيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون، مشكاة، ونحو ذلك من الكلمات.

والصواب أنها كلمات عربية سائدة في بلاد الشام، غير أن طبيعة الخطاب القرءاني يتعلق بقوم عندهم مدنية وحضارة وفلسفة وثقافة، وهذا كله متحقق في بلاد الشام أم القرى التي هي فعلاً مركز ومرجع وإمام للقرى العالمية عموماً لطبيعتها الجغرافية والثقافية والتاريخية والحضارية، وهي الأرض المباركة عموماً ومكة خصوصاً، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} سبأ18.

وهذا يفسر تكالب قوى الاستكبار عليها وعلى ثرواتها والسيطرة عليها ومحاولة عزلها عن دورها كأم للقرى، وهي دائماً محط أنظار العالم.

في حين أن هناك موجة جديدة لا ندري أهي فعل من التراث أو موجة موجهة ومُخطط لها، أم مجرد موجة خواطر، إذ يقولون: إن موقع مكة والكعبة الحقيقي ليس في مكة المعلومة، واختلفوا أين إلى عدة آراء:

منهم من يقول: إن مكة في القبط (مصر) والكعبة هي الأهرامات بالتحديد.

ومنهم من قال: إن مكة في العراق.

ومنهم من قال: إن مكة في دمشق.

ومنهم من قال: إن مكة في الخليج وبعُمان بالذات.

ومنهم من قال: إن الكعبة في البتراء، اعتماداً على فيديو أو كتاب لمستشرق افترض أن مكة في البتراء بناء على رؤية قاصرة منه، ومن يسمع الفيديو أو يقرأ الكتاب الذي ألَّفه، يجد أنه سطحي جداً وجاهل بكل معطيات التاريخ في المنطقة وجاهل في الخطاب القرءاني.

وقد اعتمدوا في البداية على أن الوصف القرءاني للمناطق المذكورة في القرءان لا تتطابق مع جغرافية مكة ! وهذا قد أوقعهم في حيرة من أمرهم فرفضوا الواقع واتجهوا يبحثون عن مكة!

فحين يقول القرءان:

 (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) النحل10، قالوا: هذه الصفات غير متوفرة في مكة!

وفاتهم أن الخطاب القرءاني نزل للناس جميعاً، وهو آية لهم، وليس من الضرورة أن تكون الآية موجوة في جغرافية قوم معينين، فالآية موجودة وبإمكانية أي باحث أو متدبر أن يدرسها، فعندما يتكلم عن البحر لا يعني أنه خطاب خاص لسكان البحر، وكذلك الجبال أو السموات… إلخ، فهذه الآيات موجودة للدراسة والتدبر من الناس، ولا يمكن لقوم معينين أن يدرسوا كل الآيات بأنفسهم، وهكذا العلوم وتقدمها لا يستطيع عالم واحد أن يدرس العلوم كلها !

ومن هذه الآية وأمثالها انطلق بحث هؤلاء عن مكة من خلال الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، وافترضوا أي مكان لوجود مكة إلا أن يكون في شبه الجزيرة العربية ! حسب السيناريو الذي في مُخيلتهم بسبب ظنهم أن مُصطلح [ أم القُرى ] يخص مكة فقط، فحصروا آيات كثيرة بمنطقة واحدة محدودة جغرافياً وسكانياً وحتى ثقافياً، في حين أن كثيراً من الآيات تتكلم عن رقعة جغرافية كبيرة وهي بلاد الشام الكُبرى، كما هو موضح في الصورة سابقاً.

فآيات كثيرة تتحدث عن أم القُرى [بلاد الشام] والدُّول (القُرى) التي مرت واندثرت في بلاد الشام، وبالمقابل وَصَفَ القرءان جغرافية مكة، لأن فيها [الكعبة] وهي مهبط الرسالات، وهناك تم إكمال الدين وختم النُّبوة والحج إليها فكان لا بُدَّ من ذكرها مُنفردة مثل:

(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) 37.

ومكة معلوم أنها وادٍ غير ذي زرع، تتميز بمناخ جاف نسبياً، وهناك أسكن النَّبيُّ إبراهيم إمام الناس أهله، وهذا نص صريح وقطعي الدلالة أن مكة تقع في وادٍ لا يوجد فيه زرع، فلماذا يبحث هؤلاء عن مكة متخيلة فيها زرع ورمان وزيتون؟.

فمكة تقع ضمن إقليم تهامة غرب شبه الجزيرة العربية على بعد 80 كم من البحر الأحمر، ضمن تشكيلات الدرع العربي المكون من صخور متحولة، صخور جوفية اندساسية، وصخور غرانيتية، أما أوديتها فتغطيها ترسبات الحصى والرمل، ومعظم هذه الأودية التي تتشكل منها مكة تتبع في تكوينها حركات الصدوع والانكسارات التي مرت بالدرع العربي خلال الأزمنة الجيولوجية القديمة.

أما مُصلطح (الدرع العربي) فهو يُشكل جزءاً كبيراً من الصفيحة العربية ويقع في غربي شبه الجزيرة العربية، ويُغطي ثلث مساحتها، وهو يتكون من:

– صخور متحوِّلة: كانت في الأصل صخوراً رسوبية وبركانية قديمة، ثم جعلها الضغط والحرارة العاليين صخوراً متحولة.

– صخور جوفية اندساسية: أي: صخور تجمدت من الصهر داخل القشرة الأرضية من دون أن تصل إلى السطح.

– صخور بركانية: تكونت في العصرين الثلاثي والرباعي من اللافا (Lava) التي ساحت على سطح الأرض، خارجة من البراكين، ولذا تجمدها كان سريعاً وحجم بلوراتها كان صغيراً، مثل صخور البازلت.

وتم اختيار مكة من بقية بلاد الشام لبعث الرسول ونزول القرءان فيها، لأن مكة لم تكن حينئذ تحت هيمنة دولة الروم أو الفرس، وبعيدة عن الصراع الرومي الفارسي، وطبيعة قبائلها حرة أبية بخلاف الشعوب البقية، فقد تم استعبادها ورسخت تحت سيطرة الروم والفرس لمدة زمنية طويلة جداً، استحال معها قيامهم بنهضة فكرية وتحررهم من العبودية والذل والقهر، وإن لزم الأمر وجب تدمير الدولة بأكملها حتى يتم إرسال الرسالة، ويدخل الناس في دين الله، فكان لا بُدَّ من بيئة حرة تصلح أن تكون حاضنة للفكر الجديد، وتَمثل ذلك في مكة والمدينة، فأخذت الدعوة فرصتها الزمنية للولادة وانتشرت وترسخت في المنطقة بعيدة عن طمع الفرس والروم وصراعهم لزهدهم بالمنطقة، وبعد ذلك كما هو معلوم تأسست أول دولة للمسلمين في تلك المنطقة، وبدؤوا يحررون أنفسهم في جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية وشرقها وغربها من سيطرة الروم والفرس، وطردوهم خارجها وأثبتوا وجودهم كدولة صاحبة قرار مؤثر يُهاب جانبها ويحسب لها ألف حساب.

ومن الطبيعي بعد تأسيس الدولة وانتشارها أن تنتقل عاصمة الدولة من مكة لعدم صلاحيتها، لأن تكون عاصمة دولة حديثة إلى عاصمة لها وجود وحضارة وثقل في المنطقة، فكانت أول عاصمة للدولة هي المدينة التي أسسها النَّبيُّ محمَّد نفسه، ومن ثم انتقلت العاصمة إلى العراق في زمن الحاكم الرابع علي بن أبي طالب وبنى الكوفة، وبعد ذلك أتى الأمويون وجعلوا دمشق عاصمة دولة الأمويين، ومن بعدهم صارت بغداد عاصمة دولة العباسيين، وهو اختيار موفق من قبل الجميع، ويدل على وعي جغرافي وسياسي عندهم.

وبعد اكتمال الدين ونزول القرءان ووفاة النَّبيِّ، واستقرار الدولة الإسلامية في المنطقة، انتهى دور مكة كعاصمة سياسية لترجع مدينة دينية فقط، وهذا ما يجب أن تكون عليه مدينة السلام بعيدة عن الصراع والحروب أو الاستغلال الاقتصادي من قبل أحدهم، ولا تخضع لسلطة أحد، وإنما يقوم بالعناية بها مجموعة قرى بلاد الشام، ومن يساعدهم من الدول الأخرى.

وروي عن النَّبيِّ محمَّد أنه قال: إذا فَسَدَ أهلُ الشامِ، فلا خَيرَ فيكُم، ولا يزالُ أناسٌ من أمتي منصورين لا يُبالون من خذلهم حتى تقوم الساعة.

والحديث في ظاهره متطابق مع منظومة أم القرى (بلاد الشام).

وبلاد الشام الكبرى إن فسدت فسدت الأمة وصلاحها من صلاح الأمة.

فبلاد الشام (أم القرى حسب الخريطة المذكورة أعلاه) تُمثل صمام الأمان للأمة ومحط أنظار الناس أجمع، وهذا واقع ومُشاهد حالياً.