مفهوم الطهارة في القرءان
مفهوم الطهارة هو واحد أينما أتى ، ولكن إسقاط ذلك المفهوم على الواقع يختلف حسب اختلاف الواقع المعني بالطهارة ؛ فطهارة النفس ، ليست مثل طهارة الجسم!ومن هذا الوجه ظهر لمفهوم الطهارة صور واستخدامات لا متناهية في الواقع .
فعلى ماذا تدل الطهارة مفهوماً ؟
الطهارة : من (طهر) الطاء والهاء والراء . فما هي دلالة أصوات هذه الأحرف ؟
ط : صوت يدل على دفع وسط متوقف .
هـ : صوت يدل على تأرجح خفيف .
ر : صوت يدل على تكرار .
واجتماع هذه الأصوات على ترتيب كلمة (طهر) تفيد عملية الدفع الوسط مع تأرجحه بصورة خفيفة، وتكرار هذه العملية .
هذا مفهوم كلمة (طهر) بصورة فيزيائية دون إسقاط على أي حدث .
ولنر كيف تحقق هذا المفهوم في الاستخدامات الاجتماعية والمعيشية للناس:
قال تعالى : [ وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ] الأنفال 11
وقال : [ وثيابك فطهر ] المدثر 4
وقال : [ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ] البقرة 222
وقال : [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] المائدة 6
وقال : [ وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً ] الفرقان 48
الملاحظ من النصوص السابقة أن الماء هو مادة تتم بواسطة عملية ا لتطهير [ ليطهركم به ] فهو مادة يحمل صفة الطهور [ ماءً طهورا ] ؛ واستخدام هذا الماء لعملية تطهير الشيء مثل الثياب مثلا [ وثيابك فطهر ] تقتضي وضع هذا الثوب في الماء ودفعه بصورة وسط مؤرجحة وتكرار هذه العملية . وهذه الصورة واضحة ومعلومة للناس في حياتهم العملية أثناء قيامهم بعملية غسل الثياب للحصول على طهارتها .
فنصل إلى أن كلمة الطهارة إن أتت متعلقة بشيء مادي فيقصد بها عملية التطهير المقترن بإزالة الخبث أي كان نوعه سواء أكان جراثيماً أم قاذورات ، ويتم استخدام المادة المطهرة المناسبة للحدث مثل النار أو الماء أو المواد المعقمة.
وبالنسبة لموضوعنا الذي نحن بصدده فالمادة المطهرة المقصودة للحصول على طهارة الجسم أو الثياب هي الماء ابتداءً . [ ليطهركم به ]
وظهر من خلال هذا الاستخدام لكلمة الطهارة ، مصطلح [ الطهارة المادية ]
ونأتي لاستخدام آخر لكلمة الطهارة في الواقع :
قال تعالى [ أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ] النمل 56
وقال : [ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر ] المجادلة 12
وقال : [ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ] الأحزاب 33
الملاحظ من استخدام كلمة الطهارة في النصوص المذكورة أنها غير متعلقة بالماء ؛ وإنما متعلقة بالمفاهيم وما ينبثق منها من سلوك على أرض الواقع . انظر إلى قوله تعالى على لسان قوم لوط عندما وصفوا المؤمنين الذين ابتعدوا عن ممارسة الفاحشة سلوكاً [ إنهم أناس يتطهرون ] بمعنى أنهم ناس ابتعدوا عن ممارسة الفاحشة ودفعوا أنفسهم نحو الالتزام بالفضيلة والأخلاق ، وتعهدوا أنفسهم على الالتزام بذلك من خلال نهي النفس عن الهوى بصورة مستمرة ، لأن النفس أمارة بالسوء وهذا يقتضي عملية الأرجحة في استمرار عملية الدفع والالتزام بالفضيلة، وعدم التوقف عن هذه العملية أبداً ،وهذا دلالة صوت حرف (الراء) ؛ وكذلك قوله تعالى : [ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر ] فالطهارة المقصودة في النص هي طهارة النفس لا الجسم .
ومن هذا الاستخدام القرآني لكلمة الطهارة ، ظهر مصطلح [ الطهارة المعنوية ] ويقصد بها طهارة النفس مفاهيماً وسلوكاً . لذا كان المؤمن طاهراً بصورة دائمة [ سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ] فالمؤمن طاهر ، ولا يخرج سلوك منه إلا طاهراً وطيباً .
فالنجاسة كلمة تقابل الطهارة المعنوية فقط دون الطهارة المادية . انظر إلى استخدام كلمة النجاسة في القرآن [ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ] التوبة 28
فالمشرك نجس من حيث المفاهيم والسلوك الذي ينبثق من شركه [ ضرر وأذى وإفساد في البيئة والمجتمع ] فالإنسان النجس : هو الإنسان المفسد في الأرض ، الذي لا يُؤمن على نفس، ولا على عرض، ولا على مال ؛ ويتبع النجس أتباعه الأقل شأناً منه وهم النسُّون .
فالنجس هو المفسد الذي يمارس سلوكه بقوة ، والنس التابع له .
ومن هذا الوجه ظهر في الاستخدام العربي كلمة [ الأنجاس ] وهم قطاع الطرق المفسدون في الأرض !.
لذا لا يصح استخدام كلمة ( نجاسة ) مقابل الطهارة المادية ، نحو أن يقول الإنسان المؤمن عن نفسه إن كان في حالة الجنابة أو الحيض وما شابه ذلك أنه نجساً !. وليقل : إني على غير طهارة للشيء المعني بالطهارة نحو إقامة الصلاة ، أو تناول الطعام أو القيام بعمل جراحي بالنسبة للأطباء ….الخ ويقوم بعملية التطهير المتعلقة بعمله .
أما إطلاق كلمة النجاسة على المواد مثل البراز والبول وغير ذلك ، فأيضاً خطأ ؛ وينبغي استخدام الكلمة المناسبة لهذه الأشياء وهي كلمة ( الخبث ) وهي أيضاً تطلق في القرآن على صورتين :أحدها متعلق بالأشياء المادية مثل قوله تعالى : [ ويحرم عليهم الخبائث ] فأي مادة قذرة ووسخة ويترتب عليها الضرر والإفساد فهي خبيثة مثل الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ؛ وذلك وصف لازم لهم في النص القرآني ، أما ما لم ينص عليه القرآن فصفة الخبث فيه راجعة إلى طبيعته ويدور الحكم على استمرار صفة الخبث أو زوالها مثل الأنعام إن تم علفها بعلف عضوي أو قاذورات فتصير خبيثة ، ويحرم أكلها حتى تعلف طاهراً وتتخلص من خبثها فترجع صفة الطهارة لها مثل الأبقار والأغنام المجنونة التي تم علفها بالأِشياء العضوية . فلا يصح استخدام كلمة ( نجس ) على الدم ، وإنما هو شيء خبيث من الناحية الغذائية والصحية ، ولا علاقة له بصحة أداء الصلاة أبداً في حال أصاب الإنسان منه شيئاً على جسمه أو ثوبه ، فهو من الخبائث التي ينبغي عدم تناوله طعاماً ،وتطهير الجسم أو الثوب منه من باب النظافة ليس أكثر .
أما الصورة الثانية لاستخدام كلمة (الخبث) فهي في قوله تعالى [ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ]النور 26 وقوله [ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ] الأنبياء 74 وهي خبث معنوي متعلق بالسلوك الفاحش والمفسد في الأرض .
والسؤال الذي يفرض ذاته بعد تلك الدراسة هو : هل يوجد غسل بالماء لكامل جسم الإنسان الذي صار في حالة جنابة أو محيض أو لامس النساء ؟
بعد أن عرفنا أن الطهارة تستخدم في القرآن على وجهين :
-1 طهارة معنوية متعلقة بإزالة النجاسة السلوكية .
-2 طهارة مادية متعلقة بإزالة الخبث الذي يصيب جسم الإنسان أو ثوبه .
والطهارة المادية لجسم الإنسان ( النظافة ) هي شيء فطري ، فعملية إزالة الخبث بعد قضاء الحاجة ( التغوط أو التبول ) لا يحتاج إلى تشريع إلهي يتلى إلى يوم الدين ، لأن القرآن ليس من طبيعته تشريع ما هو تحصيل حاصل . فيترك ذلك إلى فطرة الإنسان ، فالإنسان الفطري يزيل الخبث الذي يعلق بجسمه من أثر خروج الفضلات منه نحو العرق والقيح أو الدم من المجروح و الوسخ والبصاق إضافة إلى أثر البراز أو البول وما شابه ذلك ،من تنظيف الأسنان واللسان وإزالة الشعر النابت على الإبطين أو على العانة، فكل ذلك سلوكيات فطرية يقوم الإنسان بالتطهر منها ؛ وأي تقصير في أحدها أو إهماله هو نكوص عن الفطرة وتشويه لها ، وسوف يدفع ثمن ذلك التقصير والإهمال من صحته العامة ، والازدراء الاجتماعي لسلوكه. ولا يصح أن يقول الإنسان أن ترك ذلك هو فطرة ، والطهارة منه مدنية وثقافة ؛ فترك ذلك هو رجوع إلى الحياة البهيمية والتوحش ، والحياة البدائية ، وليس ذلك صفة الإنسان الفطري.
والذي أريد أن أصل إليه هو أن القرآن لم ينص على تشريع الطهارة المادية المتعلقة بالسلوك الفطري ، وإنما نص على طهارة مادية متعلقة بسلوك تعبدي شعائري الذي هو إقامة الصلاة ،قال تعالى :
[يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ] المائدة 6
فالنص واضح في طلب عملية حصول الطهارة المادية ، وذلك شرط لإقامة الصلاة فقط لا غير، ودلالة حرف ( إذا ) هي لحتمية حصول ما بعده ، بخلاف دلالة حرف ) إن ( الذي يفيد الاحتمالية . وكلمة ( آمنوا ) من آمن وهي فعل رباعي أصلها [ أَأْمن ] على وزن [أسلم ] وتدل على قيام الفعل من الفاعل على وجه الاختيار موجه إلى آخر نحو :
[ أسلمت وجهي لله ] و [ إني آمنت بربكم فاسمعون ] وليس فعل ( آمن) على وزن (قاتل ) وبالتالي لا يوجد علاقة جدلية بين من قام بفعل الإيمان ، ومن تم الإيمان به .
والطهارة المادية المتعلقة بالصلاة جعلها الشارع ذات هيئة معينة فذكرها بالتفصيل التي عُرفت في الفقه الإسلامي باسم (الوضوء) وصار شرطاً لإقامة الصلاة . وهذا الشرط ( الوضوء ) ينقضه ما خرج من أحد السبيلين ( القبل والدبر ) ريحاً أو صوتاً أو دماً أو برازاً أو بولاً أو مذياً أو ودياً أو منياً أو قيحاً . ويعفى من كان مريضاً . والذي دلَّ على ذلك هو كلمة [ أو جاء أحد منكم من الغائط ] فكلمة [ الغائط ] تدل في الاستخدام الثقافي حين نزول النص على طرح الفضلات من الإنسان وذلك يقتضي منه الذهاب إلى مكان منخفض حتى يطرح فضلاته . ولا يقاس على ذلك طرح العرق من جسم الإنسان لاختلافه عن هذه الأشياء ، كما أنه لا يصح استثناء خروج الريح ( الغازات) من نواقض الطهارة ( الوضوء ) لأنه من الفضلات التي تخرج من فتحة الشرج، فمثله مثل البراز تماماً . فأحدهما غازي، والآخر مادي . أما الغازات التي تخرج عن طريق الفم فهي فضلات غير ناقضة للوضوء لانتفاء شمولها بكلمة [ الغائط ] ولا يصح قياسها على الغازات التي تخرج من الفتحة الشرجية، لا يستويان !.
وصلنا الآن إلى قوله تعالى : [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] وهذا الأمر أتى متعلقاً بإقامة الصلاة بسياق الطهارة المادية كونه قد تم ذكر الغسل لأعضاء الوضوء بداية ؛ مما يدل على وجود صورة أخرى يقع الإنسان فيها وهي حالة الجنابة فإن حصل ذلك فصورة تحقيق شرط إقامة الصلاة ليس هو الوضوء ، وكذلك ليس المقصود من الخطاب الطهارة الفطرية ( النظافة ) مما يؤكد أن الطهارة في النص هي طهارة مادية أكبر وأعم من غسل أعضاء الوضوء ، وليس ذلك إلا غسل الجسم كاملاً، ومما يؤكد ذلك هو قوله تعالى [ولاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا] النساء 43
فوصلنا الآن إلى وجوب حصول الطهارة لإقامة الصلاة وذلك متمثلاً بصورتين :
الأولى : الطهارة من الحدث الأصغر [ أو جاء أحد منكم الغائط ] ويكون ذلك بالوضوء .
الثانية : الطهارة من الحدث الأكبر [ الجنابة ] وتكون بالغسل لكامل الجسم .
والنص يشمل الذكور والإناث معاً بدليل أول الخطاب [ يا أيها الذين آمنوا…… َولاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا] ولا يصح قول بعضهم : إن النص يتكلم عن الذكور فقط بدليل جملة [ أو لامستم النساء ] فهذا الكلام خطأ نتج عن قصور فهم لدلالة كلمة [ لامستم] فهذه الكلمة هي على وزن [ لاكَمَ ،قاتَل ، لاعَبَ ، كاتَبَ ، ضَارَبَ …] فهي تدل على طلب ممارسة الفعل مع الطرف الثاني بصورة متماثلة . فقولنا : لاكَمَ زيدٌ عمراً . بمعنى تبادلا اللكمات. وقولنا : لاعَبَ الأب أولاده . بمعنى طلب اللعب معهم وتشاركا في عملية اللعب . وكذلك فعل [ لامَسَ ] فهو طلب فعل اللمس للنساء بصورة متبادلة . مما يعني أن الرجل لمس المرأة ، والمرأة بدورها لمست الرجل، وكلاهما تلامسا مع بعضهما بعضاً.
فوصلنا إلى أن عملية التلامس بين الرجل والمرأة المقترنة بشهوة يجب عليهما الطهارة بصورة الغسل للجسم كاملاً لكليهما .
ودلالة كلمة [ اللمس ] يقصد بها التلامس بشهوة سواء حصل إدخال أم لم يحصل قوجب الغسل عليهما، وهذا خلاف دلالة كلمة(المس) في قوله تعالى : [ إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة ….] الأحزاب 49، فيقصد بها الدخول بهن لأن المس هو سريان شيء في شيء.
وبهذا العرض نكون قد وصلنا إلى أن كلمة [ الجنابة ] لها صورتين :
الأولى : حصول الاحتلام أو الإنزال من قبل الرجل أو المرأة دون عملية جنسية بينهما .
الثانية : حصول عملية النكاح بصورة منتهية بالإدخال .
وهاتان الصورتان هما الحدث الأكبر الذي يجب غسل الجسم كاملاً منهما لمن أراد أداء الصلاة .وذكر كلمة ( جُنُباً ) في النص دون غيرها من الكلمات لأنها تشمل كل حالات الإنسان التي تقتضي منه مجانبة الصلاة،ومن هذا الوجه ظهر مصطلح ( الجنابة)
وقد يقول قائل : ما الدليل على أن الجنابة في قوله تعالى [ وإن كنتم جنبا فاطهروا ] هي ما ذكرت من صور مادية !؟ ولماذا لا يكون المقصد منها هو دلالة كلمة (الجنب) لساناً من الجانب نحو قوله تعالى : [ والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ] النساء 36
وقوله [ فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم …..] التوبة 35
وقوله [ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون …] القصص 11
وبالتالي يكون معنى النص [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] أي إن أعرضتم أو ابتعدتم أو أعطيتم جنبكم لأوامر الله إعراضاً ومعصية فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا من هذه الأفكار النجسة برجوعكم إلى الطاعة والامتثال لأوامر الله عز وجل ! وممكن أن يكون دلالة [ فاطهروا ] إضافة للطهارة المعنوية ، الغسل للجسم في حال الوقوع بهذه الممارسة النجسة ،وبالتالي لا علاقة لها بعملية الاحتلام أو الإنزال أو ملامسة النساء لا من قريب ولا من بعيد !؟
فأقول وبالله أستعين .
إن من الغلط الفاحش ممارسة عملية القص من النص وإلصاقه بمكان آخر ، ومحاولة فهمه وتوليفه حسب مكانه الجديد ، فهذا العمل الغوغائي سوف يترتب عليه ظهور أفهام غريبة وعجيبة لا تمت إلى المنظومة العامة بشيء ، بل وتقوم بعملية تشويهها وإفساد نظامها العام والخاص.
لاشك أن دلالة كلمة ( جنب ) هي واحدة من الناحية اللسانية ، ولكن تظهر بصور متعددة حسب إسقاطها واستخدامها في الواقع . انظر إلى قوله تعالى :
-1 [ما فرطت في جنب الله ]
2- [والجار الجنب والصاحب بالجنب]
3-[ وجنوبهم وظهورهم ]
فعلى ماذا تدل كلمة (جنب)!؟
ج – صوت يدل على جهد وشدة .
ن – صوت يدل على ستر أو اختباء .
ب – صوت يدل على جمع واستقرار متوقف .
وجمع هذه الأصوات الثلاثة مع بعضها بترتيب كلمة (جنب) تدل على جهد وشدة مستورة متجمعة ومتوقفة، وظهر ذلك المفهوم في الواقع بصورة جانب الشيء كونه تحقق به دلالة أصوات كلمة (جنب)، لاحظ أن دلالة كلمة (جنب) لا تعني الابتعاد ، وإنما تعني أن الشيء هو قوة متجمعة على ذاته مجاور لشيء آخر . ومن هذا الوجه نقول : الجانب . وهو ما يقع بجواري وعلى طرفي ملتصقاً به . انظر إلى قوله تعالى : [ أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (الزمر 56 ) بمعنى فرطت بالأوامر المتعلقة بالله عز وجل ،حيث أن الله عز وجل منزه عن الجانب المكاني .
إذاً؛ كلمة (جنب) لها مفهوم واحد وصور متعددة تظهر حسب سياق النص ومحله من الخطاب، وكلمة (جنب) في النص [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] حسب سياق النص ومحله من الخطاب ، ودلالة كلمة [ فاطهروا ] التي تدل على الطهارة المادية ( الاغتسال ) لا يمكن أن تكون دلالة كلمة ( جنب ) بمعنى معنوي متعلق بالكفر أو المعصية أو التفريط في جنب الله ؛ وإنما تدل على معنى مادي يحدده سياق النص ومحل تعلقه من الواقع .
فالنص يتكلم عن شرطية حصول الطهارة المادية لأطراف الإنسان إذا قام إلى الصلاة. فعلى ماذا تدل كلمة [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] حرف (إن) يدل على احتمالية حصول هذه العملية ، وسياق النص ومقصده يستبعد تماماً أن يكون المقصد من كلمة (جنباً) المعنى المعنوي، وكذلك يستبعد المعنى الذي يقول بذهاب الإنسان إلى جانب منطقة سكنه والعمل والتعرق والتعب وإصابته بالغبار فعليه أن يغتسل إذا قام إلى الصلاة سواء أكانت حالة تعبدية شعائرية ،أم حالة تفاعل اجتماعي !! فهذا تحصيل حاصل لا يحتاج إلى تشريع يتلى إلى يوم الدين . فالجملة تصف الإنسان نفسه بحالة الجنب [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] فهي حالة ملابسة لجسم الإنسان وليست حالة خارجية عنه بدليل كلمة [ فاطهروا ] التي تدل على الاغتسال ضرورة حسب ما ذكرت سابقاً . وكلمة [ جنباً ] تدل على جوار وقرب للشيء مع عدم مخالطته ، وتحقق ذلك عندما يجانب الإنسان الصلاة المأمور بإقامتها ولا يستطيع فعلها لملابسته بحالة اقتضت أن يكون جانباً للصلاة ؛ فما هي الحالة التي اقتضت ذلك !؟.
نجد ذلك في البُعد الثقافي لاستخدام صورة دلالة كلمة (جُنب) في المجتمع الذي زامن نزول الوحي ، وهي حالة حصول الاحتلام عند الإنسان أو الإنزال أو الجماع التي اقتضت من الإنسان أن يجانب الصلاة الشعائرية مع استمرار صلته بالله عز وجل وهذه المجانبة ليست ابتعاداً ، وإنما كما ذكرت سابقاً هي جوار وقرب للشيء دون مخالطة . وبالتالي يظهر لنا تهافت هذه الأفهام المجتزأة من سياق النص القرآني، وتخبطها، لأنها تفرغ النص القرآني من محتواه ومقصده ، وتحاول أن تفهمه في فراغ دون واقع إنساني لهذا الخطاب الخالد .
بعد أن عرفنا أن دلالة كلمة الطهارة في القرآن إن تعلقت بسياق مادي يقصد بها الغسل ؛ نأتي لدراسة نص المحيض . [ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ] البقرة 222
الملاحظ أن السائل يعرف ما هو المحيض ، ويسأل عن شيء محدد ، وهذا الشيء طبيعي لأن الأصل في السائل أن يكون عنده تصوراً لسؤاله ؛ ويأتي الجواب الإلهي : [ هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن .. ] والاعتزال للنساء ليس موجهاً لهن حياة ومعيشة واختلاطاً ، وإنما موجه إلى اعتزال عمل الاقتراب الجنسي منهن، وبالذات لمكان نزول دم المحيض ،وتم السماح بالاقتراب منهن بشرط حصول عملية الطهر [ حتى يطهرن ] وذلك بانقطاع نزول دم المحيض بصورة طبيعية ، وقيام المرأة بعملية التطهر [ فإذا تطهرن ] ودلالة حرف ( إذا) هو حتمية الحصول لما يذكر بعده ، وفعل (تطهر) عندما يدخل عليه حرف (التاء) يعطيه جهداً ، لذا تسمى هذه التاء ، بتاء الجهد ؛ فتقوم المرأة بعملية الغسل لمكان نزول دم المحيض من خلال تتبع أثره وإزالته بالماء فإذا فعلت ذلك زالت علة النهي عن الاقتراب منها المتمثلة بالأذى . وهذا بالنسبة لإباحة جماعها ، لأن الجماع لا يشترط له غسل الجسم كاملاً .
وعند القيام بتقاطع النصوص مع بعضها ، واقصد نص الصلاة [ وإن كنتم جنباً فاطهروا ] واشتراط الطهارة لإقامة الصلاة ، والطهارة للصلاة متمثلة بصورتين :
الأولى : محددة بغسل الأطراف المذكورة ( الوضوء)
والثانية : طهارة مطلقة يقصد بها غسل الجسم كاملاً( الاغتسال)
والمرأة في حال ملابستها للمحيض قد نفى الله عز وجل عنها صفة الطهارة المادية،[ حتى يطهرن] فهي غير طاهرة جسمياً ،ولا يمكن أن تزيل عن جسمها هذه الصفة،لأنها من طبيعة خلق المرأة الفزيولوجية،وليس لها إلا عملية انتظار حصول الطهارة بصورة طبيعية ،فتصير طاهرة ، ولكن غير متطهرة ،وذلك بدلالة أمرها بفعل التطهر[فإذا تطهرن ] ،فعندما ينقطع دم المحيض منها تصير طاهرة، وعندما تغتسل تصير متطهرة ؛ وعملية التطهر مرتبطة بالعمل الذي تريد أن تقوم به ؛ فإن أرادت الجماع فعملية التطهر حد أدنى هو غسل الفرج بالماء وتتبع أثر الدم ، وإن أرادت الصلاة فعملية التطهر هي غسل الجسم كاملاً . لأن طهارة الجسم لا تكون إلا بالغسل له كاملاً . كما في قوله تعالى [ ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ] . وتلحق بالمرأة الحائض ، المرأة النفساء لأنها مثلها تماماً بالعلة . وبالتالي يسقط عنها حكم وجوب إقامة الصلاة الشعائرية في فترة محيضها ، وهذا الإسقاط هو حكم رباني علمته النساء ضمناً عندما اشترط الله لأداء الصلاة الطهارة المادية، ونفي عنهن في فترة المحيض صفة الطهارة وأمرهن بعملية التطهر بعد الطهر ، ففهم النساء أن الشارع أسقط الصلاة عنهن من خلال تقاطع النصوص التشريعية مع بعضها .
الخلاصة :
1- الطهارة قسمان :
أ- طهارة معنوية متعلقة بالمفاهيم والسلوك، يقابلها مفهوم النجاسة .
ب- طهارة مادية متعلقة بالجسم والثياب، يقابلها مفهوم الخبث .
2 – الطهارة المادية تقسم إلى قسمين :
أ- طهارة من الحدث الأصغر وتكون بعملية الوضوء والنظافة الفطرية .
ب- طهارة من الحدث الأكبر وتكون بالغسل لكامل الجسم .
-3 الحدث الأصغر هو خروج الفضلات من أحد السبيلين [ براز أو غازات ، بول أو مذي أو ودي أو قيح أو مني ] ويعفى المريض من وجوب تكرار الوضوء . ولا تعد الغازات التي تخرج عن طريق الفم أو التعرق للجسم أو نزيف الدم أو القيح…الخ من نواقض الوضوء.ولا يصح وصفها بالنجاسة ، وإنما هي من الخبائث ، التي ينبغي أن يتطهر منها الإنسان ، مع صحة صلاته إن أصيب ببعض منها .
-4 الحدث الأكبر :هو الاحتلام أو الإنزال أو الجماع، أو حالة المحيض أو النفساء بالنسبة للنساء .
5 -لا يصح إطلاق كلمة [ النجاسة ] على المؤمن الذي صار جنباً أو حائضاً ؛ وإنما يقول : أنا على غير طهارة الصلاة .
-6 الدم المسفوح أو دم الحيض أو البراز والبول وما شابه ذلك لا يوصفوا بالنجاسة، وإنما يوصفوا بالخبائث التي يجب التطهر منها إن أصابت جسم الإنسان أو ملابسه .
-7 لا مانع من مخالطة المرأة الحائض في الحياة المعيشية من المأكل والمشرب والمجلس والعناق والمصافحة وما سوى ذلك ، ويحرم الاقتراب منها جنسياً في مكان نزول دم المحيض فقط لا غير حتى تطهر وتتطهر بالحد الأدنى غسل الفرج وتتبع أثر الدم .
8 -يسقط حكم وجوب إقامة الصلاة بالنسبة للمرأة الحائض طوال محيضها لاشتراط الشارع الطهارة المادية لإقامة الصلاة الشعائرية .
9-يباح للمرأة الحائض ممارسة حياتها الاجتماعية بصورة كاملة .
10 -يباح للمرأة الحائض ممارسة كافة نشاطها الثقافي التعبدي من علم ودراسة وتأمل وتلاوة للقرآن وذكر الله وتسبيحه والصيام والحج، وغير ذلك، لعدم اشتراط الطهارة البدنية للقيام بتلك الأعمال [ لأن الأصل عدم التكليف إلا بنص ]
-11 الاستحاضة لا تأخذ حكم الحيض ، لاختلاف في بنية الدم ؛ فهي حالة مرضية ليست أكثر .
-12 الإفرازات المهبلية لا تعد من نواقض الوضوء بالنسبة للمرأة، وينبغي أن تحافظ على النظافة عموماً .
-13 ماء الرجل ( المني ) مادة طاهرة وليست خبيثة أو نجسة ، ولكن ينبغي إزالتها من على الثياب أو الجسم من باب النظافة والصحة العامة .
اضف تعليقا