الحـج أشــهُرٌ معلومـــات والناس حصروه في أيام معدودات
إن من السائد في المجتمعات الإنسانية صفة التابعية لبعضهم بعضاً ، فإذا فعل شخص عظيم أمراً سرعان ما ينتشر في مجتمعه ويتبعونه بذلك ويلتزمونه وينتقل ذلك إلى المجتمع اللاحق ويأخذ صفة الثبات على الوضع الذي تمت ممارسته فيه من حيث الصورة والوقت ، رغم أن الأمر يحتمل صوراً أخرى وسعة في الوقت لأدائه .
والمجتمعات يغلب عليها صفة الالتزام بما سبق وانتشر وتوارث وتُعطي له صفة القداسة لقدمه أو لعدم وجود مخالف أو مغاير في تطبيقه على أرض الواقع . وهذا المرض الأممي اتباع الآباء دون فهم ودراية كان سبباً رئيساً للتخلف والانحطاط وإصابة الأمة في تفكيرها .
لذا؛ ينبغي العلم أن التزام المجتمعات الإنسانية بأمر معين لا يعني نفي السماح أو الصواب لاختيار أمر آخر ، كما أن هذا الالتزام للأمر لا يُعطي له صفة الوجوب ، فالتاريخ ليس مصدراً تشريعياً وإنما هو مصدر معلوماتي . والمصدر التشريعي الديني إنما هو مصدر واحد فقط هو القرآن كتاب الله رب العالمين الذي احتوى رسالته إلى الناس جميعاً{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158، وهو خطاب لكل الناس في كل زمان ومكان ، وصالح لكل زمان ومكان ، فكل مجتمع معني بخطابه وله تفاعله الخاص مع الخطاب الإلهي ضمن السيرورة والصيرورة والثابت والمتغير .
قال تعالى : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }آل عمران97 ؛ وقال : {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } الحج 27-28، فالأمر موجه إلى الناس جميعاً وهو دعوة الله لهم إلى حج البيت ، وهذه الدعوة عامة لكل من يستطيع تلبية الدعوة فعليه أن يلبي وما ينبغي على أحد منعه من ذلك.وكلمة (الناس) على عمومها تشمل مختلف الملل والطوائف فليست هي حصراً للمؤمنين بالنبي محمد ( ص ) لأن الله عز وجل [ رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ]الناس1-3، والبيت العتيق إنما هو بيت الله الحرام . فرب الناس يدعو الناس إلى حجِ بيته فما ينبغي على مجموعة من الناس أن تحتكر الدعوة لنفسها وتمنع الآخرين من الحج . وهذه الدعوة يستثنى منها المشركون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا }التوبة28 .
والشرك هو لسان حال واعتقاد متمثل بمنهج في التفكير ونظام في الحياة لذلك وصف الله المشركين بصفة النجاسة التي تدل على ستر جهد مضطرب غير محدد في محاربة الحق ، وهذه الصفة (النجاسة) متأصلة في نفوسهم نتيجة مفاهيم الشرك المتلبسين بها ، ولذلك أمر الله المؤمنين أن يمنعوا هؤلاء الأنجاس من حج البيت لانتفاء الأمان والسلام والطمأنينة معهم .
أما الكفر فهو لسان مقال وأفعال متمثل في السلوك والمواقف التي يتخذها الإنسان تجاه الحق ، فالكفر إنكار وتغطية للحق ، ومن كانت هذه صفته فهو لن يلبي دعوة الله أساساً إلى حج بيته الحرام . أما عامة الناس المسالمين الآمنين فهم معنيون بالدعوة إلى بيت الله الحرام . ليشهدوا منافع لهم مادية وثقافية وسياحية ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ومعدودات . وهؤلاء الناس المسالمين الآمنين يقومون بأداء المناسك المجعولة لهم . قال تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ }الحج34
ودعوة الله للناس إلى الحج مفتوحة خلال أربعة أشهر معلومات كما أخبر الرب في كتابه إذ قال : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة197 ،وأشهر الحج المعلومة هي : الأشهر الحرم الأربعة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }التوبة36 ،التي تؤلف فصل الربيع فصل تكاثر الحيوانات وبناء الطبيعة وترميم ذاتها، وأداء مناسك الحج تكون في أيام معدودات أو على الحد الأدنى في يومين متتاليين على مدار الأشهر الأربعة ، فأي يومين اختارهما الإنسان لأداء مناسك الحج ضمن الأشهر الأربعة فحجه مقبول وهو غير ملزم بأيام معينة في شهر معين لأن ذلك تضييق على العباد وإلزام لهم بمالم يلزمهم الله به ، كما أن نسبة ذلك الإلزام إلى الله هو تقول وافتراء عليه .
قال تعالى : {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }البقرة203 ، فوقت الحج أشهر معلومات ، وأداء المناسك في أيام معدودات . ومثل ذلك كمثل وقت الصلاة المفتوح ، وأداء الصلاة يكون ضمن هذا الوقت الذي يقبل التعددية في الأداء من قبل الناس لأن لكل منهم حاجته وضرورته وانشغاله مع بقاء الأفضلية في أداء الصلاة في وقتها الأول ، وصحة أدائها فيما بعد ، فوقت الصلاة معلوم ، وأداءها في دقائق معدودة.
قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } التوبة3 ، هذا النص متعلق خطابه بالنبي محمد (ص) بخلاف النص السابق [ وأذن في الناس بالحج ] فهو متعلق بالنبي إبراهيم كما في سياق النص الذي قبله [ وإذ بَوْأنا لإبراهيم مكان البيت ] الحج 26، فالنص إعلام وإخبار [ أذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُهُ ].
والشاهد في النص هو قوله تعالى [ يومَ الحجِ الأكبر ] ومن المعلوم أن النص القرآني لا يوجد فيه حشو أو لغو أو عبث فكل كلمة لها دلالة مقصودة ، والنص القرآني هو خطاب من حي إلى أحياء ومن عالم إلى عقلاء متعلمين ، ففهم النص يتم من خلال علاقة بين المتكلم والمخاطب ، والمتكلم في النص القرآني هو الله الخالق المدبر ، والمخاطب هم الناس جميعاً خلال الزمان والمكان . فعندما ذكر الخالق كلمة [ الحج الأكبر ] دلَّ ضرورة على وجود الحج الأصغر، ولو انتفى ذلك لكانت صفة (الأكبر) حشواً وعبثاً لانتفاء الحاجة إلى ذكرها في الواقع لحصول الدلالة عند المخاطب نحو قولنا : الثلج أبيض . فإن صفة البياض للثلج لازمة له ويستحضرها المخاطب عند سماع كلمة ( الثلج) فإذا أضفناها فهناك احتمالين : الأول : وجود ثلج غير أبيض وذكرها لتحديد الثلج عند المخاطب .
الثاني : ذكرها من باب الثرثرة لا أكثر وهي حشو لا تفيد معنى زائداً عند المخاطب حين يسمع كلمة(الثلج) .
والنص القرآني منزه عن الثرثرة والحشو في الكلام الذي لا فائدة منه عند المخاطب . وكون الأمر كذلك فكلمة ( أكبر ) ضرورة تفيد أن هناك (حجاً أصغر)، والحج الأكبر هو أداء المناسك في أيام معدودات من ذي الحجة التي تزامن عيد الأضحى المبارك . وهذا الوقت للحج الأكبر هو الذي التزم الناس به منذ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا المعاصر ، وتم نسيان أو إغفال صحة أداء مناسك الحج في غير هذه الأيام من الأشهر الأربعة المعلومة التي يكون الحج فيها اسمه الحج الأصغر . وتواتر أداء الحج في ذي الحجة واستمر إلى أن صار عند الناس شرعاً لا يقبل التعديل أو التغيير ، والناس لا تحب تغيير ما تعودوا عليه وورثوه عن آبائهم !. أما ما قيل في التراث من تبريرات فهي أقوال لا قيمة لها من الناحية العلمية .
فأمامنا الآن كلام الله الذي يقول : ( الحج أشهر معلومات ) كوقت ،( واذكروا الله في أيام معدودات ) كأداء ، يقابله كلام الناس وتطبيقهم التاريخي للحج في أيام معدودات ضمن شهر واحد حصرًا . والسؤال المعروض الآن هو: هل كلام وتطبيق الناس تاريخياً يحدد ويقيد كلام الله عز وجل ؟ أم أن كلام الله حجة بذاته على فهم وتطبيق الناس؟
وإذا سأل أحد من عُبّاد الآباء والإسناد من قال بذلك القول ؟ نقول : الذي قال بذلك هو الله عز وجل ، ولك أن تقبل به أو تتركه لقول الآباء !
وإذا تبنى أولياء أمر المسلمين والمعنيون في الموضوع هذا المفهوم يصير فسحة وسعة في أداء الحج لتعدده مرات ومرات خلال الأشهر الأربعة وتحل كل المشاكل والأحداث المعروفة ، ويتوجه إلى الحج بضعة ملايين من الناس دون حرج أو مشقة في أداء المناسك ، ولأولي الأمر أن ينظموا الذهاب للحج حسب استطاعة الاستيعاب للناس وتنظيم أمورهم ، نحو أن يكون ذلك في كل شهر مرتين أو ثلاثة ليصير المجموع في الأشهر الأربعة اثنا عشر مرة ، وفي كل مرة يحج نصف مليون كحد أدنى ليصير المجموع ستة ملايين وهو عدد كبير وقابل للزيادة من خلال تعداد مرات الحج خلال أشهر الحج.
وينبغي في هذه الحالة أن يفكر أولياء أمر المسلمين في عملية جعل مكة مدينة السلام العالمي ويشرف عليها دول العالم الإسلامي كله وتصير من مسؤوليته على الصعيد الأمني والاقتصادي يحافظون على نشر فكر السلام والتعايش والتعارف والتماسك الإنساني حتى تصير مكة مركزاً يشع بالعلم والثقافة للمجتمعات الإنسانية قاطبة، ويفرضون على العالم مفهوم الأشهر الحرم، ويمنعون القتال فيها ويفرضون هدنة بين الشعوب، ومصالحة مع الطبيعة، وحماية أجناس الحيوانات من الانقراض، ومنع الصيد، وخاصة الأمهات وصغار الحيوانات . ويقومون بتفعيل نداء الإمام النبي إبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) الحج 27، نداء موجه للإنسانية جمعاء ليشهدوا منافع لهم ويتواصلوا مع الآخرين ويتبادلوا المحبة والسلام ، ويتم التعارف والتعاون لإزالة وتقليص الإرهاب والاستبداد والاستعباد الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي ورفض الاستكبار الأممي العولمي، ومحاولة المصالحة بين الشعوب المتناحرة وعدم العودة إلى الحروب.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 .
اضف تعليقا