متى بدأ تشريع حكم  تحريم قتل الإنسان وعقوبة القاتل

بدء تشريع حكم تحريم قتل الإنسان

عندما بدأ الوعي عند الإنسان وُلد مفهوم المجتمع بالحد الأدنى والبدائي حينئذ  لأن الإنسان كائن اجتماعي، وأي تجمع إنساني دائم مستقر في علاقاته يُولد عنده ضرورة نظام اجتماعي يُنظم علاقة الأفراد ببعضهم لتستقيم الحياة لهم لحفظ حقوق الفرد والأسرة والجماعة، وتحقيق الأمن الفردي والأمن الاجتماعي، لذلك لا يمكن تصور وجود كيان اجتماعي إنساني دون نظام يحكمه يتناسب مع مستوى  العلاقات الاجتماعية و المستوى المعرفي و توفر أدوات الإنتاج وموارد الغذاء، ويقوم ذلك على  مفهوم الحقوق  للأفراد والواجبات الاجتماعية.

ونزل الدين ابتداء مع بدء وعي الإنسان، ومفهوم الدين هو النظام عموماً الذي يقوم على رؤية ثقافية للحياة و الموت والعلاقة بينهما والعلاقة بما قبل الحياة وما بعد الموت، وهذه الرؤية انبثق منها ثلاثة أسئلة فطرية لازمت وجود الإنسان ابتداء  واستمراراً وهي : كيف وجدنا، لماذا وجدنا، أين نذهب، والجواب على هذه الأسئلة هو القاعدة الفكرية الدينية التي أسس  الإنسان عليها نظامه الاجتماعي.

ومفهوم الدين له جانبين : الأول مفهوم إيماني، والآخر نظام اجتماعي يقوم على قيم وأخلاق ينبثق منها عمل وعلاقات مع المجتمع، وهذا يقتضي ضرورة أن يكون الدين ابتداء مؤسس بأركانه التي لا يقوم إلا بها، وهذا تجلى بأركان الدين الإسلامي الثلاث: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح المبني على منظومة القيم والأخلاق الحسنة.

وقد بدأ القرءان  بذكر أحداث تاريخية برسالة النبي نوح  مع عدم نفي وجود تاريخ قبله ونبيين أيضًا، ولكن لم يذكرهم لبطئ الأحداث التاريخية حينئذ أو جمودها وعدم أهميتها للناس في دراستهم فهي أشبه بأحداث مكررة ، والكائن الذي يكرر ذاته لا تاريخ له !، وليس كل ما حصل في التاريخ وصل إلينا، ونفي علمنا  بذلك لا ينفي وجود الدين بأسسه الثلاثة.

وبما أن الدين حاضر ابتداء مع وعي الإنسان و ولادة المجتمع فلا شك أنه قد أسس المفاهيم الثقافية الإيمانية  والنظام الاجتماعي بحده الأدنى الذي لا يمكن أن تستقيم دونه حياة الفرد والأسرة والمجتمع، ولذلك قال الفلاسفة: الإنسان كائن متدين، وكائن اجتماعي، وكائن أخلاقي، وكائن تاريخي، فلا يوجد إنسان دون دين( مفاهيم ثقافية  ونظام) أو دون مجتمع أو دون  أخلاق، وفقدان أي مما سبق يؤدي لفقدان إنسانية الإنسان وانتكاسه إلى المرحلة السابقة عن الوعي.

وهذا يدل على أن أساس الدين بمفاهيمه ونظامه الاجتماعي القيمي ثابت لا يخضع للتطور أو التغير، وإنما يحكم ويوجه الجانب المتغير ليواكب التطور الاجتماعي والتقني، والمفهوم الثابت هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والنظام الاجتماعي القيمي الثابت تمثل بمنظومة القيم والأخلاق الإنسانية العامة والوصايا العشر كحد أدنى ليحفظ العلاقات الاجتماعية ، وهذا شكل أركان الدين الإسلامي الثابت الذي استمر في تاريخ الإنسانية وكل النبيين اعتمدوا عليه ودعوا قومهم للالتزام به مع نزول بعض الأحكام الجزئية العينية التي تناسب كل قوم وثقافتهم ونمط حياتهم لا تتجاوزهم إلى قوم آخرين، وهذه الأحكام لها صفة المرحلية والعينية وبالتالي هي محل للنسخ والتعديل كلما استجد شيء في الواقع، وظهر ذلك ببعث نبي جديد يجدد أركان الإسلام ويعدل ببعض هذه الأحكام الجزئية، واستمر الدين الإسلامي بهذا الشكل منذ بدء الوعي الإنساني إلى أن نزل القرءان فصار الكتاب الجامع والمكمل لما سبق من الكتب وحوى كل الدين بأحكامه التفصيلية وأخذ الصفة الإنسانية ، وكان شرعه كله يقوم على الرحمة والمنفعة والأحسن للناس ، وحتى يغطي الجانب المتحرك والمستجد في الإنسانية والمجتمعات صاغ شرعه حدودياً، وترك للإنسان والمجتمع أن يتحرك بحرية وفق هذا المنظور ويختار ما يناسبه ، فكان التشريع الإسلامي ليس للإلزام بتطبيقه عيناً وإنما لنفي تجاوز حدوده سواء في النظام الاجتماعي الذي أتى بالحد الأدنى مع السماح بتجاوزه صعودا نحو التطور والوعي،  أو بالعقوبات  التي أتت بالحد الأعلى مع السماح بتجاوزها نزولاً نحو الرحمة والإنسانية.

فكانت الوصايا العشر حاضرة بقوة منذ بدء الدين الإسلامي، ولا يمكن أن يصح الدين بجانبه الاجتماعي دونها لأنها الحد الأدنى لحماية الفرد والمجتمع.

ولذلك نجد تلك الوصايا العشر سواء كلها أو معظمها  حاضرة في ثقافة المجتمعات خلال التاريخ كله، ويوجد عندهم عقوبات زاجرة ورادعة لحماية حياة الإنسان لتستقيم الحياة وكانت عقوبة القتل للقاتل العمد كحد أعلى منتشرة بين الأقوام  ومتداولة مع وجود عقوبات أخف من القتل وذلك شيء عادي وهو مطلب ديني أصلاً  ولم يخرجوا أو يخالفوا الدين في عملهم هذا،  أما نفي العقوبة كلها عن القاتل بسبب ظلم القوى الاستكبارية في القوم، أو تطبيقها على الضعفاء وترك الأقوياء فهذا لا يعول عليه وهو خلاف الصواب، ولا ينفي وجود عقوبة القتل للقاتل في القانون.

وليس صواباً من ادَّعى أن الوصايا العشر بدأ تشريعها في عهد النبي موسى ونزلت عليه بالتوراة لأول مرة في الدين الإسلامي، فكما ذكرت آنفاً أن مضمون الوصايا العشر هي من مقومات الدين وأساسه الاجتماعي ولا تستقيم حياة الإنسان والمجتمع إلا بوجودها، ولاحظنا وجودها في كل الثقافات مهما ابتعدت في الزمن وتقادمت وتقلص عندها التطور والمدنية ومن أقدم ما وصلنا في هذا الصدد هو مفاهيم ونظام المندائية التي تنتسب للنبي نوح والنبي إبراهيم  وهي تنص على الوصايا العشر وتصرح بأن قتل الإنسان محرم إلا بأمر من السماء ، ونتابع القراءة فنلاحظ أن حمورابي وحسب التلمود موجود قبل النبي موسى  بـ 400 سنة وتحتوي شريعة موسى بعض الأجزاء المطابقة لأجزاء معروفة من شريعة حمورابي، التي منها تحريم قتل النفس وقانون العقوبات الذي يقوم على القصاص النفس بالنفس والسن بالسن، ويظن بعض المؤرخين أن شخص حمورابي قد يكون هو شخص النبي إبراهيم ذاته ولكن أصاب سيرته تحريف في التاريخ مع احتمال معاصرة أو قرب زمن عهد حمورابي إلى زمن النبي إبراهيم. والتماثل بين الشرائع أو التطابق حتى أمر منطقي وطبيعي لأن محل التشريع في الجانب الثابت في الإنسان و المجتمع لا يتغير من زمن إلى آخر ( منظومة القيم والأخلاق العامة)، ولا يدل بالضرورة  على أخذ اللاحق من السابق، ولا ينفي التأثر أو الأخذ بتفاصيل القانون في الجانب المتغير من المجتمعات السابقة أو المجاورة التي هي أكثر تطوراً، فهذا أيضًا شيء طبيعي بين المجتمعات وتبادل الخبرات والمعلومات.

انظر الوصايا العشر ولاحظ كيف هي نظام لحماية المجتمع بأفراده بالحد الأدنى لتستقيم الحياة وتستمر

ونزلت الوصايا العشرة  على النبي موسى باسم الفرقان وأعيد إنزالها بالقرءان إقراراً لها و تثبيتاً باسم الصراط المستقيم، وهي مجموعة في سورة الأنعام بداية من آية {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }الأنعام 151 ، وتنتهي بآية رقم (153)، وهي الحد الأدنى  لقيام أي  نظام اجتماعي تشريعي بصرف النظر عن الزمان أو المكان أو العرق  أو اللون.

1- لا تشرك بالله شيئاً.بمعنى لا تستخدم الله أداة لقتل الناس وترويعهم، أو هتك أعراضهم، أو أكل أموالهم، أو تدمير ممتلكاتهم أو مصادرتها، أو خداعهم فكرياً وعلمياً… باسم الله.

2-تحريم قتل النفس البريئة بغير  حق، وتمثل ذلك بصور منها قتل النفس  بالنفس وتتجاوز ذلك إلى صور إجرامية تتعلق بالفساد والإرهاب الاجتماعي.

3- تحريم قتل الأولاد معنوياً بمعنى عدم حرمانهم من حريتهم وحقهم في التعليم واللعب، وعدم حرمانهم من الغذاء والدواء واللباس… خشية الفقر.

4- التحريم من الاقتراب من كل الفواحش ممارسة وترويجاً وتسهيلاً( الزنا، والمثلية، والكلام القبيح المؤذي للآخرين).

5- بر والديك وعاملهم بالإحسان

6- تحريم استغلال مال اليتيم أو أكله.

7- الالتزام بالمواصفات للأشياء كماً وكيفاً وعدم الكذب على الناس

8- الالتزام بالعدل في الأقوال ولو على أنفسنا أو أقربائنا.

9- الوفاء بالعهود والصدق مع الناس وعدم خيانة الأمانة أو سرقتهم.

10- الالتزام بإتباع الصراط المستقيم وعدم الإخلال بأي واحدة من الوصايا

تحريم قتل الإنسان في التوراة  وعقوبته

أتى تحريم قتل النفس بالتوراة بنص الوصايا العشر بعبارة ( لا تقتُل)، وأتت عقوبة القاتل بنص:

(إن القاتل يُقتل، ولي الدم يَقتُل القاتل حين يصادفه يقتله ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت، بل إنه يُقتل).

وذكر القرءان تأكيد صحة صيغة عقوبة القتل في التوراة بطريقة القصاص

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }المائدة45

تحريم قتل الإنسان في القرءان

وأعاد القرءان إنزال الوصايا العشر كما هي وأقرها لأنه كما قلت هي الحد الأدنى لاستقامة حياة أي مجتمع ومن بينها نجد تحريم قتل النفس بغير حق.

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }الأنعام151

الممارسات التي تستدعي عقوبة القتل للإنسان في القرءان

وضع المشرع عقوبات عنيفة وقاسية كحد أعلى لحماية حياة الأفراد والأمن الاجتماعي وهي عقوبات سقفية حدودية زاجرة ورادعة غير ملزم المجتمع بتطبيقها عيناً ، ولكن ملزم أن لا يتجاوزها صعوداً نحو العدوان و الظلم، وحض المشرع  على تجاوزها نزولاً نحو الرحمة والإنسانية و الحفاظ على حياة الناس ما أمكن ذلك وهذا مقصد ديني، واختيار عقوبة مناسبة تؤدي المقصد منها كعذاب وألم للمجرم وهذا يرجع لطبيعة كل مجتمع وثقافته ومستوى انتشار الجريمة وبشاعتها.

نلاحظ أن القرءان عرض ثلاث احتمالات سمح بها بقتل الإنسان وعدها من القتل بالحق مع الأخذ بعين الاعتبار أن ذلك حكم حدودي سقفي وليس عينياً، بمعنى أن القتل ليس مطلوباً لذاته وغير مُلزم لمؤسسة القضاء؛ بل هو اختيار لأقصى عقوبة يمكن أن يطبقها القاضي حسب ما يرى

– الاحتمال الأول للقتل هو القتل الشخصي وهو جريمة جنائية

فهل اعتمد المشرع على عقوبة التوراة نص القصاص{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }المائدة45

أم غيَّر هذا الحكم العنيف نحو الرحمة والإنسانية ونسخ بتر الأعضاء (العين بالعين وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ..) ، وحافظ على عقوبة النفس بالنفس كحد أعلى وحكم سقفي حدودي، فأعاد تشريع عقوبة النفس بالنفس من خلال إعطاء صلاحية لولي المقتول بالمطالبة بقتل القاتل بصرف النظر عن ملته أو نوعه أو مقامه الاجتماعي من خلال السلطة الحاكمة التي ينبغي أن تنصره وتحقق العدل والقصاص بذلك، والقاعدة الأصولية بذلك هي (شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا مالم يُقره القرءان) ونهى المشرع عن الإسراف بالقتل وهو تجاوز شخص المقتول لأي فرد من أسرته لأن هذا ظلم وعدوان، وحض على العفو والصفح والنزول بالعقوبة من القتل إلى الغرامة والتعويض وعقوبة تحافظ على حياة الإنسان مثل السجن لفترة معينة يختارها القاضي. اقرأ:

{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }الإسراء33

-الاحتمال الثاني هو قتل يتعلق بقتال أهلي أو قبلي أو أسري للأخذ بالثأر وسقوط قتلى من الطرفين

من المعلوم أن هذا القتال حينما ينشب بين أسرتين أو قبيلتين نتيجة خطأ فرد من أحد الأسرتين وقتله لفرد آخر، و لايتم تسليمه للسلطة ويتمنع بأسرته أو قبيلته، مما يؤدي إلى قيام الأسرة صاحبة المقتول بقتل أي شخص  من أفراد أسرة القاتل وينشب بينهم القتال ولا يُعرف من قتل من، ولا يوجد إرادة وتصميم من أحدهم على قتل شخص بعينه من الطرف الثاني، وغالبًا يتم القتل عشوائيًا واعتباطاً، ويسقط القتلى من الطرفين، وهذه الصورة للقتال الثأري العشوائي ينتشر في مجتمع متخلف وبدائي.

وفي حال حصول تلك الحالة الهمجية  يدخل طرف ثالث قوي يمنع القتال بينهما فوراً ويحقن الدماء ويقف حاجزاً بينهما ورادعاً، ويطلب منهما التفاوض لحل المشكلة بأقل الخسائر الممكنة والصلح خير ، والمقصد هو الحفاظ على حياة الأكثرية المتبقية وحمايتهم من العدوان لتستمر الحياة، فعرض المشرع  حل احتمالي عنيف وشديد وهو عقوبة زاجرة ورادعة ومؤلمة كحل سقفي حدودي  لإنهاء القتال وتوقيفه للأبد ولا يكون بينهما غالب أو مغلوب وهو القصاص في القتلى، وذلك في حال تعنت الطرفين وعدم الوصول إلى حل بينهما، وكانت القبائل تقول: القتل أنفى للقتل، وهي مقولة يعدونها بليغة جداً، ولكن الواقع أنها تدل على القتل من أولها إلى آخرها مع تكرار كلمة القتل فيها، بينما الجملة القرءانية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) جملة تدل على الموقف المنطقي العقلاني الذي يؤدي للحفاظ على الحياة من خلال القصاص،  والذي يحصل غالباً في مثل تلك الحالات أن الطرفين يقبلون بالتفاوض والصلح ويتم التحول إلى الفداء والتعويض، وهذا مقصد المشرع  دفعهم إلى التفاوض والصلح لأن القتلى قد ماتوا والميت لا يرجع ولو أخذت بثأره، والحي أبقى من الميت،  لنقرأ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة178{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة179

الذي دل على أن هذا النص يتعلق بقتال أهلي ثأري هو كلمة (كُتب) فقد أتت بصيغة فعل مبني للمجهول وهذا يعني تعدد الفاعلين وعدم تحديدهم، وفي الواقع أن الذي حاجنا للقصاص هو مجموعة عناصر وعوامل حصلت في الواقع دفعتنا لقبول القصاص مكرهين، ودل أيضاً على ذلك كلمة (القتلى) وهي جمع وليس قتيل واحد، ومقامات المقتولين الذين ينبغي القصاص منهم بالمستوى ذاته الاجتماعي ( الحر بالحر  والعبد بالعبد..) لأن المشرع لا يوجد عنده محاباة في الخلق فكل الناس عباد الله ، وحكم قتل الإنسان بصرف النظر عن ملته أو نوعه أو مقامه هو القتل كما ذكرت آنفاً يعني  (النفس بالنفس)، يعني إن قامت امرأة بقتل رجل تقتل أو بالعكس، أو قام رجل غني بقتل فقير يقتل أو بالعكس، أو قام رجل عظيم بقتل إنسان بسيط من عامة الناس يقتل وبالعكس، وإن قتل شخص آخر من غير ملته يقتل أو بالعكس وهذا بالنسبة للقتل الجنائي، فعندما أتى تصنيف في المقامات والنوع في نص القصاص دل على أن القتال هنا ليس جنائياً  وإنما قتال يتعلق بين أسرتين أو قبيلتين يتعلق بالثأر، ودلالة كلمة (حر)  تعني الشخص الذكر أو الأنثى صاحب القرار والمستقل برأيه من  أفراد الأسرة ، وكلمة (العبد) تعني أفراد من عامة الأسرة لا علاقة لذلك بالرق والعبودية أبداً، ويقصد بها الذكور لمجيء بعدها كلمة الأنثى، ويقصد بكلمة ( الأنثى بالأنثى ) عامة النساء و يستثنى منهن الأطفال ذكوراً أو إناثاً لأنهم ليسوا هم محل للثأر والعقوبة و لنفي التكليف عنهم  ولا يتحملون نتيجة خطأ فرد من أسرتهم.

– الاحتمال الثالث على إمكانية القتل لإنسان

{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة33

هذا النص يسميه أهل الفقه نص الحرابة ، وهو حكم يتعلق بفئة يعيثون في الأرض فساداً وعدواناً وظلماَ ، مثل الإرهابيين والجريمة المنظمة، والعصابات ومغتصبي الأطفال والنساء، وما شابه ذلك مما  يهدد الأمن الاجتماعي ويشكل خطراً على حياة الناس وممتلكاتهم ويعطل مصالحهم.

واضح أن النص عرض احتمالات وصور للعقوبة وترك الاختيار مفتوح أمام القاضي بما يراه مناسبًا ، مع الانتباه أن دلالة كلمات العقوبة لها دلالة مادية وأخرى معنوية. مثلاً:

القتل يمكن أن يكون بصورة زهق الحياة عن الإنسان ويمكن أن تكون بتوقيف فاعليته وتقليصها للحد الأدنى أو إلزامه باتخاذ موقف معين كعقوبة له.

صلب: تدل على تثبيت الشيء بقوة في وضع معين لا يغادره  وهذا يقتضي تثبيت حركته وتقليصها للحد الشخصي أو دون ذلك.

قطع: تعني التوقف للشيء ومنعه وتظهر بدلالة مادية وبدلالة معنوية حسب السياق.

وكلمة الأيدي والأرجل في النص هذا  ليست أعضاء عضوية وإنما هي بمعنى القوى المساندة لهم والوسائل التي يستخدمونها في إجرامهم يجب ملاحقتها وتوقيفها ومصادرتها

والمهم في الموضوع هو حماية المجتمع ومكوناته ومقوماته بالحل المناسب الذي يراه مؤسسة القضاء.

فلذلك لايصح الاعتراض على هذه العقوبات وإنكارها أو وصف التشريع الإسلامي بأنه دموي أو عنيف لأن هذه العقوبات هي حدودية وسقفية، وهي عقوبات رادعة وزجرية  وغير مُلزمة بالتطبيق العيني ولك الخيار في أن تنزل نحو الرحمة والإنسانية.

عقوبة القتل عمداً في الآخرة

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }النساء93

القتل الخطأ وكفارته

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء92

مفهوم كلمة مؤمن في النص هذا ليس المقصد منها الإيمان الديني وإنما هي من الأمن والأمان فكل إنسان سلمي في نفسه وسلوكه فهو مؤمن، وله صفة المواطنة والحماية ، فمن قتل هذا الإنسان خطأ بصرف النظر عن ملته أو نوعه أو مقامه، ينبغي أن يكفر عن خطئه بأحد الصور المذكورة في النص.

– قتل مؤمن خطأ من المسالمين تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة لأهله

  • قتل مؤمن ينتمي إلى عدو لنا وبالتالي أهله من الأعداء فتحرير رقبة مؤمنة فقط و لا يتم دفع الدية حتى لا يقوى العدو بها.
  • قتل مؤمن خطأ لقوم بيننا وبينهم ميثاق وعهد فكفارته دفع الدية إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة
  • ومن لم يجد عنده مالاً لدفع الدية ولم يستطع تحرير رقبة مؤمنة فينبغي أن يصوم شهرين متتابعين كفارة له