مفهوم: سجد (السجود)

كلمة (سجد)، السين، والجيم، والدال، تدلُّ على حركة متّصلة حرة، يدخل عليها جهد وشدّة منتهية بدَفع شديد متوقّف؛ وهذا المعنى يظهر في الواقع على وجهَيْن: وجه مادي، وآخر معنوي.

أ- الوجه المادي للسجود: ظهر بصورة ركوع الإنسان، جاثيًا على ركبتيه إلى أن يصل بوجهه إلى الأرض، ويضع جبهته عليها؛ وهذه الحالة هي سجود الجسم، تعبيرًا عن سجود النَّفْس:

قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر:9].

وقال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [الأعراف: 120].

وقال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [الشعراء: 218-219].

وقال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا } [يوسف:100].

وقال: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا } [الإسراء:107].

وقال: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم:58].

ب- الوجه المعنوي للسجود: ظهر بصورة الخضوع والانقياد لمجموعة من الأوامر، وتحقّق ذلك بسجود كلّ شيء لله عزّ وجلّ، العاقل وغير العاقل. وبالنسبة للعاقل يكون السجود سجودًا نَفْسيًّا متمثّلًا بالالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج:18].

وقال: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15].

وقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } [الفتح:29 ].

وقال: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق:19].

وقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة:112].

وعلى ضوء ما ذكرت نفهم النص هذا {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [آل عمران:43]، لماذا أتى فيه كلمة السجود قبل الركوع خلاف ترتيب حركات الصلاة من حيث أن الركوع هو قبل السجود، والذي أشكل على كثير من المتدبرين للنص.

والجواب هو أن مفهوم السجود والركوع في النص هو معنوي وليس ماديًّا حركيًّا، والمعنى للسجود في النص هو الخضوع والانقياد، ومعنى الركوع هو التفاعل والتلاحم مع المتفاعلين والمتلاحمين في فعل الخير من البر والإحسان فمن الطبيعي أن يأتي الركوع بعد السجود في هذا المعنى، ومن هذا التدبر للنص نفهم أن السيدة مريم لم تكن راهبة كما يشيع لذلك كثير من المفسرين، وإنما كانت سيدة طاهرة عاملة ومتفاعلة في مجتمعها تركع مع الراكعين.