انتفاء العلم بالكيف ليس برهاناً لإثبات التصور
يفيد هذا الكلام في طريقة تعاملنا مع الظّواهر وتفسيرها، إذ ينبغي أن نفرق بين الحكم على عملية إثبات الحصول، والحكم على عملية التّفسير وحقيقة كيفية الحصول.
مثل مسألة إخبار إنسان بأحداث حصلت قبل ميلاده، وهو لا يملك أي معلومات عنها؛ فهذا الحدث من حيث الحصول، ثابت عند من شاهده وحضر ذلك الحدث، وأفاد القطع واليقين في حصوله، فهل يصح ذلك أن يكون برهاناً على مسألة التّقمص ؟
فهذا التّفسير، هو احتمال وظن صدر من فرد، عنده مفهوم إمكانية حصول التّقمص سابقاً؛ فجعل هذه المسألة برهاناً، على مفهوم ظني مع أن هذه المسألة لا تصلح أن تكون برهاناً على مفهوم التّقمص؛ لانتفاء التّصُور، والتّفسير العلمي لكيفية حصول ذلك الأمر مع إثبات حصوله في الواقع.
أما قول بعض الباحثين، في هذا المجال: إن القاضي إذا جاءه شاهد على مسألة، وأقسم اليمين على صواب أقواله؛ فإنه يحكم على موجب تلك الشّهادة، فكيف إذا تواترت الشّهادة في حدث معين، ألا يفيد ذلك القطع واليقين في صواب ما جرى، ومن ثم َّ، يحكم على الحدث وَفق هذه الشّهادة المتواترة ؟
يريد هذا الباحث، أن يقرر قاعدة علمية في التّعامل مع هذه الظّواهر، وهي قاعدة التّواتر للخبر، ويطالب بأن نتعامل مع تفسير هذه الظّواهر بصُورة علمية، نتيجة تواتر خبرها، ولو انتفى التّصُور، والعلم بكيفية حصول هذه الظّواهر.
وهذا الكلام خطأ في الواقع، من حيث عدم تطابق المثل، الذي ساقه ليستدل على مسألته، فمسألة تواتر شهادات النّاس في الإخبار عن حدث، هو مجرد إخبار في حصول الحدث، وليس في تفسيره أو حقيقته، فهذا أمر آخر غير الإثبات، وما أَخْذُ القاضي بشهادتهم في الأمور المعيشية بين الناس، والاعتماد عليها في حكمه، إلا على غلبة الظّن، وليس القطع واليقين لتعذر معرفة الحقيقة، وهذا أمر اجتماعي لابُدَّ منه لحفظ حُقُوق النّاس؛ فلا يصلح الأخذ به في المسألة العلمية، وجعله برهاناً وأساساً، نتعامل به.
انظر مثلاً، لو أن رجلاً وَجد رجلاً مقتولاً، بسكين مغروزة في قلبه فانحنى عليه، وأمسك بقبضة السّكين، فدخل مجموعة من النّاس عليه ـ في هذه اللّحظة ـ دفعة واحدة، أو كانت هناك آلات تصوير، تبث بصُورة مُباشرة، وشُغلت بالتزامن مع إمساك قبضة السّكين ! فماذا يكون حكم القاضي بناء على هذه الشّهادة المتواترة، من مئات النّاس أو الآلاف ؟ فلا شك أنَّ الجميع سوف يشهدون، بناء على ما رأوه، من غرز الرّجل السّكينَ في قلب الضّحية، وسوف يعتمد القاضي على هذه الشّهادات ويُجَرِّمُ الرّجل، ويحكم عليه بجريمة القتل بناء على المعطيات التي وصلت إليه مع العلم أنَّ الحقيقة غير ذلك، ممَّا يُؤكِّد أن حكم القاضي فيما يتعلق بحُقُوق النّاس، إنَّما هو على غلبة الظّن، وحسب المعطيات التي تصله، وهو مضطر أن يقوم بذلك؛ لأنه لا يملك أدوات يعرف بها الحقيقة، فهذا الأمر خاص في التّعامل والحكم بين النّاس، ولكن لا يصلح معياراً يعتمد عليه في العلم، وتفسير حقيقة الظّواهر.
إذاً، مسألة الحكم على حقيقة الشّيء، وكيفية حصوله وتفسيره، ينبغي أن تخضع للدّراسة العلمية، وذلك باستخدام الأدوات المعرفية، والتّقنية التي وصل إليها الإنسان كمجتمع؛ لأنَّ الدّراسة دون أدوات معرفية، صارت مجرد نظرة سطحية بدائية، لا يعول عليها أبداً، نحو دراسة نقطة الدّم قبل اختراع المجهر، فهي مجرد سائل أحمر، فهل تستوي الدّراسة قبل الأدوات المعرفية، وبعد وُجُود الأدوات المعرفية ؟ لا يستويان !.
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } (الزّمر9).
فتواتر الحدث شيء ( أداة معرفية)، والحكم على حقيقته شيء آخر (أداة علمية) ينبغي التّنبه للفرق بينهما، أثناء الدّراسة والحوار والنّقاش.
لقد بُنيت مفاهيم خطيرة نتيجة هذا الخلط بين إثبات الحصول، وكيفيته وبسبب عدم معرفة الكيف مع إثبات حصول الحدث تم تَوهم مجموعة من المفاهيم، نحو:
1 ـ مفهوم الاستنساخ: الذي يدل على ظُهُور صُورة طبق الأصل عن الشّيء المستنسخ، وهذا يكون في المستوى ذاته من إنسان إلى إنسان آخر في زمان ومكان مختلف، وهو غير الاستنساخ الطّبي المعروف.
2ـ مفهوم المسخ: وهو جعل الكائن بصُورة أدنى من صُورته الأولى، وذلك لإهانته وإذلاله، نحو مسخ الإنسان إلى حيوان ( خنزير أو قرد أو كلب ).
3 ـ مفهوم النّسغ: وهو تغيير صُورة الكائن الإنساني إلى أدنى صُورة من صُور الحياة وهي النّبات.
4 ـ مفهوم التّقمص: وهو عملية اتِّصال نفس ميتة بنفس مازالت على قيد الحياة في جسم واحد، ويمكن أن يكون في خروج النفس من جسمها، ودخولها في جسم جديد في مكان آخر بعد هلاك الجسم الأول.
5 ـ مفهوم الكائنات الجنية الشّبحية، وذلك نتيجة أحداث، لم يُعرف فاعلها في الواقع؛ فعُزيت إلى كائنات شبحية، أو نتيجة َفهم ِنُصُوص قرآنيةٍ بشكل خطأ ورد فيها كلمة ( الجن ).
فجميع هذه المفاهيم، وغيرها، انطلقت من حكم بعض الناس على حقيقة الحدث، وكيف صار دون علم ودراسة، بل اعتمدوا على ثبوت حصول حدث ـ في الواقع ـ فأطلقوا العنان لخيالهم، في اختراع وتصُور حقيقة هذه الأحداث، فوصلوا إلى الأوهام وجعلوها مفاهيم أو عقائد، وهي لا تمت إلى الواقع بأي صلة، ولا يمكن البرهنة عليها؛ فهي مجرد أوهام موجودة في ذهن من اخترعها ومن تبعهم في ذلك.
إن عدم معرفة الفاعل ـ في الواقع ـ ليس مبرراً لتوهم أي فاعل في ذهن الإنسان يتم اختراعه، كما أن عدم معرفة كيفية حصول الحدث ليس مبرراً لتوهم أي تفسير والحكم عليه بناء على التّفسير الوهمي (عدم العلم بالكيف لا يصح استخدامه في إثبات شيء ).
فهذه ظواهر، تستحق الدّراسة والتّفكير، ويسير العلم ـ الآن ـ نحوها رويداً؛ رويداً، وتتسع دائرة العلم، وكلما توسعت دائرة العلم؛ اكتشفنا سعة اللا معلوم، كم هي كبيرة في واقع الحال.
{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } (الإسراء 85 ).
وأخيراً ينبغي أن نفرق بين مفهوم البرهان، ومفهوم الدليل، فالبرهان يفيد إثبات الأمر بصورة قطعية، أما الدليل فهو أمارة وعلامة وتوجيه ليس إلاَّ، ومن هذا الوجه أُطلق على الأحاديث النبوية أنها دليل، وليست برهاناً، وذلك لأن ثبوتها على غالب الظن سواء أكان من ناحية السند أم المتن وإشكالياته.
اضف تعليقا