مفهوم

الفراغ والخلاء والفضاء واللاشيء والعدم والأزلية والسرمدية

قبل أن نتكلم عن طريقة استخدام معظم العلماء وأتباعهم لهذه الكلمات في غير محلها ينبغي أن نعرفها ونحدد مفهومها اللساني، لأن المفهوم اللساني له سطوة وهو الذي يحكم المعنى ويسود وينتشر بين الناس.

ولابد من استحضار القاعدة المنطقية اللسانية الذهبية أولاً حتى نستحضرها في الدراسة مع العلم أن القرءان هو مرجع وبرهان على صحة دلالة الكلمة واستخدامها على الوجه الصواب، واستخدام الناس للكلام هو للتقريب ولا يخلو من اعتباط وقصور، ولذلك نضطر لاستخدام أكثر من مفردة كلامية لنشرح دلالة كلمة وتوصيل معناها للسامع، ولذلك ينبغي على السامع أن ينتبه إلى هذه النقطة ولايتعامل مع كلام الناس بشكل محكم وصارم وعلمي وحق،وإنما يتعامل مع المعنى الذي قصده المتكلم ويحاول أن يصل له.

[الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم واحد لسانياً، ويظهر معانيها المختلفة حسب السياق واستخدام المتكلم لها محكومة بالمفهوم اللساني لا تخرج عنه، وإذا اختلف المبنى على صعيد أصوات الكلمة كلها أو جزئياً أو اختلف حركتها الصوتية يختلف المعنى، وأي زيادة في المبنى هو زيادة في المعنى].

– الفراغ: من فرغ، الفاء والراء والغين أصل صحيح يدل في عمومه على الخلو والسعة. مقاييس اللغة

لنقوم بتحليل أصوات الكلمة:

ف: صوت يدل على حركة منضمة تنفتح بخفة ورقة

ر: صوت يدل على حركة مكررة أو تكرار حركة

غ: صوت يدل على حركة غياب واختفاء

ومجموع مفهوم أصوات الكلمة بترتيبها هذا يدل على حركة منضمة تنفتح بخفة ورقة وتتكرر هذه الحركة لتصل إلى حالة الغياب في الواقع.

وظهر هذا المفهوم ثقافياً بدلالة الخلو والسعة والاتجاه والامتداد…. وذلك من خلال عملية الانفتاح المكرر المنتهي بغياب عن الناظر له، فأطلقوا على المكان الممتد الخالي من وجود شيء مادي محسوس من صنع الإنسان كلمة (الفراغ)، ولم يعنوا بها خلو المكان من كل شيء بدليل وجود المكان ذاته ابتداء وهو شيء، ولا يمكن استخدام كلمة  الفراغ دون وجود مكان يوصف بها، وهذا يعني أن دلالة الفراغ لاتعني نفي وجود الشيء عموماً وإنما تعني خلو المكان من شيء معين هو محل تعلق الكلام به، أو يظهر معنى آخر لها حسب السياق.

لننظر استخدام القرءان لكلمة ( فرغ) كيف أتى:

-{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ }الرحمن31

أتت كلمة (سنفرغ) في هذا النص بمعنى الخلو والترك لأي عمل والاتجاه للاهتمام بك فقط، والمتكلم في النص جمع، وهذا يدل على أن فعل سنفرغ ليس متعلقاً بالله لأن الله لايشغله امراً دون آخر وهو على كل شيء قدير، وإنما يتعلق بجماعة معنيين بإدارة الأمر والمحاسبة حينئذ بأمر من الله سواء أكانوا من الملائكة أو غيرهم.

-{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }الكهف96

أتى فعل ( أُفرغ عليه) في النص من الفعل الرباعي أَفرَغ، مثل ضرب وأضرب، ودخول الهمزة على الفعل الثلاثي تغير اتجاه الفعل وتسمى همزة الإزالة، وظهر معنى الكلمة في النص بمعنى القيام بحركة خفيفة منفتحة بتكرار  تُغَيِّب الفعل أو تخفيه في مآله الذي سوف يحتويه نهاية، وفي حال لم يأت حرف على بعد كلمة أُفرغ يتغير المعنى مثل قولنا: أنا أُفرغ الحمولة من السيارة ، بمعنى تنزيلها وتفريغها إلى جهة أخرى أو مكان.

– الخلاء: من خَلَوَ أو خلا، الخاء واللام والواو أصل واحد صحيح يدل على تعري الشيء من الشيء، ويقال: هو خلو من كذا،إذا كان عِرْواً منه، وخلت الدار  وغيرها تخلو. مقاييس اللغة

ولا داعي أن نتوسع بتحليل كلمة ( خلا) فالمعنى واضح وهو خُلو الشيء من شيء بمعنى نفي وجود الشيء في هذا المكان، والخلاء اسم للمكان خارج البنيان، ومن هذا المعنى أتى اسم جهاز الخلوي أو الخليوي، لأنه يمكن استخدامه خارج البنيان في العراء.

– الفضاء: من فضي، الفاء والضاد والياء أصل صحيح يدل على انفساح في الشيء واتساع، ومن ذلك الفضاء: المكان الواسع. مقاييس اللغة

وتطلق كلمة الفضاء على أي مكان تحقق به الفسحة والتوسع سواء أكان في الأرض أو في السماء، فهو لايدل على نفي وجود شيء عموماً وإنما يدل على وصف مكاني، والمكان هو شيء بذاته ويحتوي كثير من العناصر الجزئية في فراغه.

– العدم: من عدم، العين والدال والميم أصل صحيح يدل على فقدان الشيء وذهابه. مقاييس اللغة.

فدلالة كلمة العدم متعلقة بوجود شيء ابتداء تم عدمه، وهذا يعني أن العدم هو حال فقدان فاعلية الشيء وصلاحيته أو حيويته أو قوته، مثل قولنا زيد مُعدم، بمعنى لا يملك مالاً، وسيارة عدم، بمعنى معطلة وغير صالحة للاستخدام ومنه الإعدام وهو إفقاد الإنسان حياته، إذًا العدم كحال يأتي متعلقاً بوصف حال شيء فقد فاعليته وصلاحيته وقوته وليس هو لاشيء، والشيء الذي يفقد قوته وصلاحيته لايتحول إلى لاشيء وإنما  هو شيء، ولكن غير صالح للاستخدام وفاقد فاعليته، وإعدام الشيء هو الذهاب بقوته وفاعليته وإرجاعه إلى عناصره الأولى مثل حرق الخشب وجعله رماداً ، أو إعدام الإنسان وتركه دون حياة ليتحلل إلى عناصره الأولى لأن العدم لاينفي الشيئية وإنما يحول الشيء من حال إلى حال.

– الشيء:  كلمة عامة تشمل كل وجود ممكن له أبعاد وشكل تشيَّأ بها فهو محدود كمَّاً وكيفاً، وقد يكون الشيء في العلم لم ينزل بعد إلى الواقع فهو شيء علمي ، وقد يكون شيئاً ذهنياً يستحيل وجوده على أرض الواقع مثل الخرافات أو المستحيلات لانتفاء وجودها أو وإمكانية تشيؤها، وكذلك لا يصح إطلاق كلمة شيء على الخالق لأنه  واجب الوجود أزلي غير محدود ويستحيل أن يتشيأ بمعنى أن يكون له أبعاد وشكل وصورة .

– لاشيء: هو لاشيء، لا يُعرَّف لانتفاء شيئيته، ولا يُنسب له شيء ولا يُنفى عنه شيء لأنه لاشيء، وهو  حكم يتعلق بانتفاء وجود شيء سواء على عموم النفي أو على الخصوص حسب تعلق الكلام .

– الأزلية: من لم يزل، وتعني البقاء المستمر على ما هو عليه دون تغير في وجوده، وصارت دلالة كلمة الأزل تعني الوجود دون بداية، والبقاء على هذا الوجود واستمراره دون نهاية.

– السرمدي: من سرمد، وتعني الوجود الممتد باتجاه الأمام دون نهاية

بعد ضبط مفاهيم هذه الكلمات نأتي لنقاش طريقة تداولها وكيف تم استخدامها بشكل خطأ وقاصر غالباً من الباحثين.

استخدم معظم الباحثين والعلماء هذه الكلمات في الوسط العلمي والفلسفي بتساهل وقصدوا منها معنى معين ، ولكن انتشر بين عموم الناس معنى آخر لم يقصده العلماء بقولهم مما أدى إلى خلق إشكال عند معظم الناس، وخاصة مع وجود من عدَّ نفسه متعلماً وتصدر منصات الإعلام، ويقوم بتقريب المعلومات للناس بواسطة وسائل التقنية المختلفة وعرضها على الجمهور بمعنى قاصر مما رسخ هذا الخطأ في أذهان الناس.

لنر مفهوم الوجود عند علماء الفيزياء

يقول علماء الفيزياء إن الوجود هو كيانات منفصلة تسبح في وسط متصل لايوجد فيه ثغرات أو فجوات خالية من شيء،  وهو أشبه بوسط مائي كبير وتعيش فيه الكائنات كلها  كل وفق نظامها وطبيعتها محكومين بالنظام العام، ومن آخر ما ذكروه هو أن المادة المظلمة تملأ الوجود كله حتى جوف الإنسان وبين خلاياه وذرات الكون، فنحن نعيش فيها وبها فهي في داخلنا وخارجنا، وسميت المادة المظلمة بهذا الاسم لأنهم لايعرفون عنها شيئاً كماهية ولاتخضع لقوانين الكوانتوم ولذلك لم يتم رصدها، وإنما تم رصد تأثيرها على المادة من خلال ملاحظة تغيرات في حركة الموجات الكوانتومية وانحرافها عن خط سيرها في الفضاء السماوي ومن ثم الرجوع إلى خط سيرها كما كانت، فقالوا : إن الوجود مؤلف من المادة المجسدة في صور وبناء ضمن علاقات لازمة ثابتة وهي الحقل الذي نعيش فيه ونتعامل معه وهو فوق الذرة ( الفيزياء التقليدية أو الطبيعية )، ويوجد حقل تحت الذرة وهو الذي يحتوي العناصر الأولية لتشكيل الصور والبناء مثل الإلكترون والبروتون والنترون والفوتون والكواركات والأوتار المهتزة … والمعروف بفيزياء الكوانتوم، وكلا الحقلين موجودين في حقل المادة المظلمة، وكل الحقول المذكورة  متداخلة ببعضها وموجودة في حقل ومجال الطاقة المظلمة.

وهذا يعني أن الفيزيائي عندما يقول: عن حدث أو جهة أو مكان أنه فارغ أو خالي أو لاشيء فيه  لايقصد نفي وجود الشيء من أصله ، وإنما يقصد نفي الشيء محل الدراسة أو نفي رصده علمياً، وليس نفي وجود شيء على إطلاقه، فمثلاً عندما نقول: إن الوعاء لاشيء فيه، نقصد خلوه من مواد معينة ولا نعني أنه لايوجد فيه شيء متناهي في الصغر مثل الهواء والذرات!

ومثل لو قال أحدنا : لايوجد في المنزل شيء، فالسامع له لايفهم خلو المنزل من وجود العناصر الذرية والهواء التي تملأ مساحة المنزل بحجمه، وإنما يفهم الكلام حسب تعلقه، يمكن أن يقصد لايوجد طعام، أولا يوجد مفروشات وأثاث في المنزل، فلذلك ينبغي فهم مقصد المتكلم وتحديد محل الخطاب ونفي تعميمه على كل شيء.

ومن الثابت أن المكان مليء بالموجات الصوتية والصورية والعناصر الكوانتومية ، بدليل أننا لو شغلنا أي جهاز الكتروني مثل التلفزيون  أو الراديو لنقل لنا الأصوات والصور المختلفة و المبثوثة والتي تملأ  مجال المنزل، وهذا يعني أن الوجود مليء بالشيء ولايوجد فيه مكان لاشيء فيه بالعموم.

وعندما يقول الفيزيائيون :إن الطاقة أزلية ، لايعنون بها المفهوم اللساني الذي عرضناه ، وإنما يعنون به القدم السحيق جداً ( الفترة الزمنية الطويلة).

وعندما يقولون: إن قبل الانفجار الكوني الأول لايوجد شيء، لايعنون نفي وجود الشيء عموماً وإلا كيف حصل الانفجار بين العنصرين الأوليين، أليس هذه العناصر شيء موجود قبل الانفجار ؟

ألا يقولون بوجود الطاقة قبل هذه المادة المتحولة، أليست الطاقة شيء؟

فهم قصدوا نفي رصد العلم  لأي حدث قبل الانفجار، ونفي الرصد بالنسبة لهم هو نفي إمكانية  الدراسة وصار  الأمر بالنسبة لهم بحكم اللاشيء.

فعلماء الفيزياء ومعظم الباحثين يستخدمون هذه المفاهيم  بشكل مجازي ولايقصدون مفهومها اللساني الفلسفي ويعتمدون في فهم المقصد والمعنى على ثقافة المتلقي للمعلومات

ولذلك ينبغي الحذر والانتباه عند استخدام هذه  الكلمات، وفهمها وفق ما يقصد بها المتكلم والتساهل مع استخدامه للفظ، والاهتمام بالمعنى الصحيح  الذي قصده المتكلم، وليس بمفهوم الكلمة لسانياً وفلسفياً التي استخدمت بشكل خطأ ، وعرضها على الناس أو طلبة العلم بالمعنى الصحيح  وضبط المفهوم حتىى لايضل الناس عن الحقيقة ويتخبطوا، والتنبيه على نفي تعميم مفاهيم الكلمات ومعانيها وينبغي حصرها في محل تعلق الكلام.