هل كان النبي إبراهيم يشك في وجود الله ( الخالق المدبر)
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام 75 ـ 79).
الملاحظ من الحوار ـ كنظم كلي ـ أن إبراهيم، كان مصدقًا بوجود خالق للسّماوات والأرض، دلَّ على ذلك قوله (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، والفاطر هو الذي بدأ فعل الشّيء.
وكان إبراهيم ـ أيضًا ـ مصدقًا بربوبية الله الخالق، دلَّ على ذلك قوله (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ما هو موضوع الحوار إذًا؟
موضوع الحوار، هو تجسيدُ الرّب في الواقع، وتعدد الأرباب، وكون مفهوم خالق السّماوات والأرض مسألة محل تسليم وإقرار؛ ينبغي أن يكون الخالق هو الرّب الأعلى ضرورة ً، ولكن قوم إبراهيم أشركوا مع الله لمّا اعتقدوا أنَّ الكواكب، هي أرباب مستقلة بنفسها قائمة على تدبير أمور الخلق، فالله يخلق، والكواكب تُدبر الأمر، ومن ثم َّ توجه قوم إبراهيم إلى عبادة الكواكب مع إقرارهم بأنَّ الله هو الخالق الفاطر للسّماوات والأرض، فوقعوا في شرك الرّبوبية، وهنا جاء دور النّبي إبراهيم في الأخذ بيد قومه خطوة خطوة؛ لإيصالهم إلى الحقيقة.
أول خطوة في الحوار قام النّبي إبراهيم بها هي مجاراة قومه، والنّزول إلى مستواهم في التّفكير، والملاحظ أنَّ النّبي إبراهيم اختار كوكبًا غير الكوكب الذي يعبده قومه؛ وذلك لإيصال فكرة هي أنَّ الكواكب متماثلة، وكما لكم الحُرِّيَّة في الاختيار، وأنا لي الحُرِّيَّة في الاختيار، وكوكبكم ليس أولى من كوكبي، وقال لهم: هذا ربي؛ (وذلك من باب الجدال) فلما أفل (غاب) قال: لا أحب الآفلين؛ لأنَّ الرّب هو القائم على شؤون تدبير أمور عباده، فما ينبغي أن يغيب عنهم أبدًا، وما ينطبق على كوكب إبراهيم، ينطبق على كوكب قومه، قياسًا أولويًا لتماثل الكواكب في الأفول، وكان اختيار إبراهيم كوكبًا آخر، لفتة منه لعقل قومه؛ وحتَّى لا يتعرض لإنكار ربوبية كوكب قومه ـ بصُورة مُباشرة ـ فيثيرهم عليه ابتداء.
ولما بزغ القمر؛ انتقل إليه وقال: هذا أولى أن يكون ربًا من الكوكب الذي أفل، وذلك لإضاءته، فلما أفل؛ أنكر ربوبيته لكونه متصفًا بصفة الكوكب السّابق، إذًا، هو مثله مُسيَّر من قبل جهة معينة، وألقى كلمة على قومه تقربهم من الحقيقة، فقال: لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} فهو مؤمن بربوبية الله، وكذلك قومه، ولكنهم أشركوا معه أربابًا (مدبرين) للكون، واعتقدوا أنهم الكواكب التي تشارك الرّب الأعلى، في عملية تدبير أمور الكون؛ فعبدوها من دون الله.
واستمر الحوار طوال اللّيل، إلى أن أشرقت الشّمس؛ فقال إبراهيم لقومه بعد أن هيأهم وحفز التّفكير عندهم: الشّمس ربي، وهي أكبر من كل ما مرَّ ذكره من الكواكب، إلى أن أفلت، فقال: يا قوم إني بريء ممَّا تشركون؛ والملاحظ أنَّ الحوار استمر إلى أن غابت الشّمس، وقد استخدم إبراهيم القاعدة ذاتها، وهي أنَّ أفول الكواكب، يدل على محدوديتها، وعجزها، وتسييرها من قبل الغير، ومن ثمَّ فكل من يأفل فهو محدود ـ قطعًا ـ، وكون الشّمس قد أفلت، فهي محدودة مثل الكواكب السّابقة، وأثار التّفكير في قومه؛ فقال لهم: إذا كنتم تعبدون هذا الكوكب، لأنه كبير؛ فالشّمس أكبر، وهي أولى حسب قياسكم بالعبادة، وكون الشّمس، وهي أكبر تأفل مثل الكواكب الأخرى؛ ممَّا يدل على انتفاء صفة الرّبوبية عن الشّمس – ابتداءً- ومن باب أولى عن الكواكب المحدودة كلها.
وقام بإرجاع الأمر إلى الخالق الفاطر(يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ)، ووجَّه قومه إلى منحى آخر في التّفكير، وهو أنكم مؤمنون بوُجُود الخالق الفاطر للسّماوات والأرض، وأنه الرب الأعلى رغم عدم رؤيتكم له، والإيمان بوحدانية ربوبيته، مسألة تابعة للإيمان بوحدانية مقام الخالق له، وهي مثلها في المستوى، فلماذا آمنتم بواحدة وأشركتم بالثّانية، بمعنى آخر، لماذا كانت مسألة الخالقية إيمانًا مجردًا دون تجسيد، ومسألة الرّبوبية قمتم بتجسيدها في الواقع، فأنا وجهت وجهي للذي فطر السّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين بربوبيته، وكما آمنت بوحدانيةد مقام الخالقية له؛ أَؤمن بوحدانية مقام الرّبوبية له تجريدًا دون تجسيد له في الواقع؛ فالخالق هو الرّب الأعلى، والرّب هو الخالق.
الملاحظ من الحوار ككل، مجموعة من الأمور أهمها:
1 ـ النّزول بمستوى التّفكير، إلى مستوى الطّرف الثّاني.
2 ـ فهم أفكار الطّرف الثّاني تمامًا؛ لدحضها.
3 ـ مجاراة الطّرف الثّاني بأفكاره، والأخذ بيده.
4 ـ الابتداء من الشّك، وبصُورة موضوعية؛ للوُصُول إلى اليقين.
5 ـ إلزام الطّرف الثّاني بمُماثلة أفكاره، ( كوكبكم مثل كوكبي كلاهما يأفل).
6ـ ينبغي أن يأخذ النّقاش مجراه، ولو اقتضى الأمر أن يستمر عدة أيام مع الفاصل الزّمني؛ لتترسخ الأفكار.
7 ـ عدم مجابهة أفكار الخصم بصُورة مُباشرة.
8ـ نقض الأفكار الجديدة ليتمكن الآخر ويتجرأ على نقض أفكاره القديمة من خلال عملية المُماثلة.
9ـ الإتيان بأمثلة أكبر من أفكار المجادل، ودحضها؛ حتَّى يتبين له أن أفكاره باطلة من باب أولى،(هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ)
10 ـ إسقاط الأفكار على الواقع بصُورة تدريجية.
11ـ التّصريح ببطلان الأفكار بعد تفنيدها، وعدم ثبوتها في الواقع، واتِّخاذ موقف الرّفض، والبراءة من الأفكار الباطلة.
12ـ عرض الفكر الحق، وإظهار الولاء له، والتّمسك به، والاستعداد الدّائم لتغيير الأفكار وتحديثها نحو الحق.
اضف تعليقا