هل كذب النبي إبراهيم على قومه؟
التّصريح في النّقاش والجدال، بأنَّ المقصد هو الوُصُول إلى الحقيقة.
قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ *قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ *قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ *قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ *وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ *قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ *قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ*قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } (الأنبياء51 ـ 69)
لن ندخل في تفسير النّص، وتأويله، وأبعاده العظيمة، فهذا مجاله في بحث آخر، والذي يهمنا من النّص، في موضوع بحثنا هو أسلوب تفكير جدال النّبي إبراهيم، وهل فعلاً كذب على قومه؟.
الملاحظ في الحوار، مجموعة من الأمور وهي:
1 ـ روح المبادرة والمسؤولية من النّبي إبراهيم.
2 ـ الحكم بالضّلال على إتباع الآباء؛ لمجرد أنهم آباء.
3 ـ الجدية في الحوار وتبيين الحق.
4 ـ التّخطيط العملي لإثبات الحق.
5 ـ إظهار تهافت الباطل بصُورة واضحة وصريحة.
6 ـ عدم استخدام الكذب في الدّعوة إلى الحق؛ لأنه خُلق ذميم يقدح في نزاهة المفكر؛ لذلك لم يقل النّبي إبراهيم: لا؛ لم أفعل، ولو قال ذلك لأخذ الجدال منحى آخر، وأثبتوا كذبه بالشّهود، وأمام النّاس، وخسر دعوته وفشل في تحقيق ما يريد، بل قال:
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}
7ـ الحيدة عن جواب السؤال، وتوجيه فكر السّائل إلى الأهم في الموضوع، الذي هو محور البحث.
فجواب النّبي إبراهيم السّابق، واضح وصريح للسّائل ومفهوم مقصده، فهو لم يكذب، ولم ينكر فعله، بل حاد عن الجواب – مستغلًا عقيدة السّائل- من كونه يعتقد بربوبية هذه الأصنام، فإن كان الأمر كما تقولون؛ فالفاعل هو الصّنم الكبير؛ أراد لنفسه الزّعامَّة المطلقة، ومعلوم عندهم ـ بداهة ـ أن ذلك لا يمكن في الواقع، فهذه التّماثيل هي مجرد حجارة، أو خشب، لا تسمع، ولا تنطق، ولا تضر، أو تنفع، فأدركوا ما يرمي إليه إبراهيم؛ فلم يدخلوا معه في نقاش، أو جدال في هذا الموضوع، بل كعادة السّدنة والكهنة، المستفيدون من هذه العقائد والمعابد في تذليل النّاس وأكل أموالهم بالباطل؛ لجؤوا إلى أسلوب إثارة غوغاء النّاس، وطالبوا بدعمهم ونصرة معتقداتهم، وقتل هذا الإنسان، الذي يريد أن يهدم عقيدة الآباء، ومن ثمَّ، تغلق هذه المعابد، ويخسرون الزّعامَّة واستعباد النّاس، ومص دمائهم، من خلال أخذ أموالهم، واستغلال جهودهم، فالحل هو: حَرِّقوه وانصروا آلهتكم!.
8ـ استخدم النّبي إبراهيم جوابًا، يدل ـ ضمنًا ـ على أنه الفاعل حقيقة، فلم يقل: لا؛ لست أنا الفاعل؛ بل أجاب بجواب ٍ لا يمكن أن يكون في الواقع حقًا، والسّائل يدرك ذلك، وقد وصل إليه الجواب تمامًا، وعلم أنَّ النّبي إبراهيم هو الفاعل حقيقة، ولكنه أحرجهم بجوابه ذاك أمام النّاس، واضطرهم لأن يقوموا بالتّعقل (الإدراك) للحدث في أنفسهم وأمام النّاس؛ فلم يستطيعوا إلا أن يعترفوا بالحقيقة، وأنهم ظالمون لأنفسهم لمّا اغتالوا العقل، ومع ذلك استمروا في ظلمهم، وتمثيلهم أمام النّاس للمحكمة العادلة؛ فقالوا له وهم خجلون من أنفسهم، ومن إبراهيم u:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُون}(الأنبياء65)
وأرادوا في محاولة ٍمنهم يائسةٍ إرجاع النّقاش إلى موضوع التّماثيل، ومن فعل ذلك بهم؛ ولكن النّبي إبراهيم لم ينجرف معهم في هذه المهزلة واستمر يناقش في محور الفكرة الأساسي، فقال: إن كان الأمر كما تقولون فلماذا تعبدوهم؟!
9ـ بعد أن ينقطع المجادل عن النّقاش، ويثبت للنّاس كذبه، أو خطؤه ويستمر في ظلمه وتماديه بالباطل؛ فلابُدَّ لصاحب الفكر الحق من أن يُظهر استياؤه وأسفه عليه، ويعاتبه ويوبخه.
{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء67)
اضف تعليقا