تدبر قصة المسيح “عيسى بن مريم”

السلام عليكم

أيها الأخوة الأعزاء

يلزم لدراسة نص تاريخي أن يكون عند الباحث منهجية معينة لدراسته، وتحليل بنيته سواء الصوتية أو المخطوطة، ومن أهم القواعد في ذلك:

1- ثبوت النص تاريخياً حسب وسيلة وصوله إلينا

2- أن يتقيد الباحث بالنص ذاته ولا يتدخل بالمبنى زيادة أو نقصاناً أو تعديلاً ، وإلا صار هو مشارك في صياغة النص وهذا يعني أنه جعل نفسه مشاركاً بالحدث أيضاً وراوي له!

3- أن يفهم النص وفق المستوى الثقافي والعلمي الزمكاني الذي قيل فيه

4- أن يفهم النص وفق الإمكانيات المتاحة حينئذ

5- أن يفهم النص وفق مفهوم الممكن ويستبعد المستحيل

6- أن يفهم النص من خلال لوازمه التي لابد من حصولها ضرورة لحصول الحدث

وهذه الأمور ليست للحصر وهي لازمة لدراسة أي نص تاريخي بشري.

وهذا يوصلنا إلى معرفة كيف ندرس النص القرءاني ؟

وقبل أن نعرض كيف ندرس النص القرءاني ينبغي أن نحدد هل النص القرءاني نص تاريخي ينطبق عليه القواعد السابقة أم لا أم بعضها أولا ينطبق عليه ذلك؟

مما لا خلاف فيه أن النص القرءاني مضى على وجوده في الأمة أكثر من 1400 عام، وهذا يجعل للنص تاريخ وجود وحركة انتقال من مجتمع إلى آخر من خلال فعل الوراثة الثقافية، ولكن هل النص القرءاني بذاته يوصف بأنه نص تاريخي، وبالتالي يتم دراسته وفق منهجية تاريخية مثل أي نص تاريخي ذو منشأ بشري؟

النص القرءاني يقوم على محورين:

المحور الأول: ثبوت النص القرءاني كمبنى لساني في ذاكرة الأمة ثقافيًا واجتماعياً بوسيلتين :

أحدهما: الحفظ الصوتي كتلاوة للنص كاملاً في الأمة وتتابع ذلك و تنامى في كل المجتمعات.

الأخرى: كتابة هذا النص خطاً في المصاحف بشكل مُبكر من زمن نشأته، فلم يمض عام على وفاة النبي إلا وسارع الحاكم ( أبو بكر) بعده في كتابة النص القرءاني وجمعه في مصحف على مرأى ومسمع المجتمع ورضاه ومراقبته، وتتابع انتشار المصحف المخطوط في زمن الحاكم الثالث في الأمة ( عثمان بن عفان) بجوار الحفظ كتلاوة صوتية للنص القرءاني.

وصارت التلاوة الصوتية للنص القرءاني والكتابة الخطية؛ خطان يسيران مع بعضهما في إثبات وجود النص تاريخياً وحفظه كما نشأ بداية من قائله الأول، ولم يَعد يُقبل أو يستساغ طعن أحد في ثبوت النص القرءاني تاريخياً، لا بشكل كلي ولا جزئي، وصار النص القرءاني هو أصح وثيقة تاريخية كثبوته لقائله واستمرار وجوده إلى يومنا المعاصر.

المحور الثاني: نسبة النص القرءاني كمصدرية لله، وهذا مفهوم إيماني له دراسة مختلفة عن دراسة ثبوت النص القرءاني تاريخياً، وتخضع هذه الدراسة للمنطق والبرهان من خلال دراسة مضمون القرءان، وهذا فعل شخصي.

لو كان النص القرءاني مجرد نص تاريخي لانطبق عليه كل ما ذكرت من قواعد دراسة النص التاريخي آنفاً، وصارت دراسته تتعلق بمن سبق ولا علاقة له بالمجتمعات اللاحقة، ويصير نصاً لا يهم إلا الباحثين فقط، ولكن عندما كان النص القرءاني له بُعد إيماني من خلال أنه رباني المصدر، وثبت ذلك بالبراهين للمؤمنين به، ويصف ذاته أنه الكتاب الجامع والمكمل لما سبق من الكتب الإلهية ولن ينزل بعده أي كتاب سماوي، وسوف يستمر وجوده إلى يوم الدين، ونزل بلسان عربي مبين يقوم على الحق والصدق والإحكام في صياغته اللسانية، وعربي الحكم والمنهج، وقام شرعه على الرحمة والإنسانية والحدودية في التشريع، واجتنب القومية والعينية في ذلك، وتعهد الله بحفظه، وقد فعل ذلك في الواقع، ومازال النص القرءاني محفوظاً إلى يومنا المعاصر كما نزل، وهذا ثابت تاريخياً، هذا وغيره ينفي عن النص القرءاني أنه نص تاريخي التوجه والعلاقة مع الناس، رغم أنه نص له تاريخ نزول وانتقال، ولكن كنص حركته إنسانية غير تاريخية، يخاطب الإنسان كإنسان وليس كزيد أو قوم معينين {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً }الأعراف158، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107.

وبما أن النص القرءاني ثابت تاريخياً وهذا حكم لا علاقة لنا نحن به فهو خارج عن رأينا ودراستنا حالياً، وثابت مصدريته الربانية بالنسبة للمؤمنين به، صار النقاش فيه نقاش داخلي بين المؤمنين، بمعنى أنه لا يطلب أحد من المؤمنين به برهان على ثبوته تاريخياً أو برهان على ثبوت مصدريته الربانية.

وإذا كان الأمر كذلك؛ وهو كذلك فعلاً، لم يَعُد من المقبول من أي شخص مؤمن بالقرءان كثبوت تاريخي محفوظ وثبوت رباني أن يتناول أي كلمة من النص القرءاني وينكرها أو ينقضها أو يُعَدِّلها …لأن ذلك نقض لثبوت النص القرءاني تاريخياً ونقض لمصدريته الربانية وتكذيب وعد الله بالحفظ له، وبما أن ذلك غير وارد عند المؤمنين به عموماً لزم علينا أن نتحاكم للنص القرءاني ونستدل به ولا نستدل عليه، وهو يحكم فهمنا وليس فهمنا حكم عليه، وهو حجة بذاته وبرهان لا يحتاج لمن يقول بقوله، وبالتالي لا يصح الاعتراض على صياغة النص القرءاني، أو الاقتراح والافتراض، أو حمل قلم أحمر وتصحيح الكلمات وحركاتها أو تبديلها بحجة أنها خطأ من النساخ بسبب التنقيط أو التشكيل ،وينبغي أن تكون بشكل آخر ، هذا الفعل غوغائي عبثي وهو موقف غير منطقي ولا يصح قَبوله ولا نقاشه لأنه ينقض الثبوت التاريخي للتلاوة الصوتية المتتابعة في الأمة، والتي تم كتابة المصحف على موجبها محكوم بطريقة لفظها وحركتها، والمصحف بدوره تتابع في الأمة بجوار التلاوة وتابع لها، كما أن ذلك الفعل طعن في الوعد الإلهي بحفظ النص القرءاني.

قد يعترض أحدهم ويقول: ألم يقل الله في كتابه : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82 ، أليس من حقنا أن نرفض القرءان أو جزءاً منه أو كلمة في حال ظهر الاختلاف لنا ؟

ونقول: إن هذا النص بحد ذاته هو تحدي أنه لا يوجد اختلاف في كتاب الله لا على المستوى الداخلي من التناقض أو التضاد أو التفكك المنطقي لمبنى النص لسانياً ولمضمون أخباره ومفاهيمه وأحكامه، ولا على المستوى الخارجي مع محل الخطاب وتعلقه ومخالفته للوجود الكوني والتاريخي ولسنن النفس والمجتمع، ومع ذلك التحدي قام القرءان ذاته بتعليم الإنسان للتأكد من صوابه وحفظه من خلال دراسة النص القرءاني وإسقاطه على محله من الخطاب فإن وجد أي اختلاف في خطابه داخلياً أو خارجياً فهذا يدل على أن الكتاب ليس من عند الله لأن الخالق أعلم بما خلق فعندما ينزل كتاباً يتوافق مع خلقه ضرورة، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك 14، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30

والاختلاف المنفي عن القرءان هو اختلاف تضاد أو تناقض في الأخبار التاريخية أو العلمية  أو الأحكام أو المفاهيم  على المستوى الداخلي أو الخارجي، وفي حال ثبت أحدها فلا شك أن القرءان ليس من عند الله. وبما أن مفهوم ثبوت القرءان تاريخياً وثبوت مصدريته الربانية إيمانياً والوعد بحفظه أمورًا محل تصديق وإيمان من قبل المؤمنين به لزِم أن يتعاملوا مع النص القرءاني وألفاظه على ما هو عليه، كما يتعامل العلماء مع عناصر الكيمياء يدرسونها على ما هي عليه دون التدخل في تركيبتها ، فمهمة المؤمن بالقرءان هي التدبر والدراسة للخطاب القرءاني وليس تصحيح النص القرءاني ذاته!

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24، وفي حال التدبر للقرءان ووصل المتدبر لفهم يخالف العلم أو المنطق أو سنن الآفاق والأنفس أو فيه ظلم وعدوان وفاحشة …. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }النور21

{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28 {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90، فليعلم الدارس أن المشكلة بفهمه وليس بالنص القرءاني وليتهم فهمه ولايتهم النص القرءاني، وليسارع في إعادة الدراسة والتمكن من الأدوات المعرفية ومنهج القرءان والتوسع في رؤيته الإنسانية والعلمية.

وصلنا الآن إلى مفهوم مهم لما يترتب على عدم فهمه من أخطاء في دراسة القرءان، وهو مفهوم التعقل والتصور.

كثيراً ما نسمع أحدهم يقول : إن هذا المفهوم غير معقول، أو يقول: غير منطقي، ونحن بدورنا نسأل هذا الشخص هل رفضت هذا المفهوم بناء على معطيات منطقية وبراهين و واقع؟ فنتفاجأ عندما يكون الجواب يعتمد على النفي فقط لعدم قدرته على تصديقه حسب المعلومات التي يحملها والتي قد تكون خطأ أيضاً ، يعني يعتمد على عدم قدرته على تصور هذا الحدث أو المفهوم وليس على المنطق والتعقل، ولنضرب مثلا لتوضيح الفكرة .

كان رجلان يسيران مع بعضهما فنظرا إلى بعيد فرأيا كتلة سوداء تتحرك، فقال أحدهما: إنه طير، وقال الآخر بل؛ إنه عنزة. وتابعا الطريق باتجاه الكائن حتى أحس الكائن بقربهما فطار، فقال الرجل ألم أقل لك إنه طيراً!! فرد الآخر بل إنه عنزة ولو طارت، وذهب هذا القول مثل على عناد الشخص وتشبثه برأيه ولو علم الحق والصواب فلا يرجع إليه.

لنحلل المثل :  نلاحظ أن إدراك وجود كائن متحرك في الواقع  حصل من الرجلين واتفقا على ذلك ، وهذا يسمى التعقل وهو إدراك حسي، وعندما أرادا الحكم على الكائن وهويته قام كل شخص بتصور خاص به دون أن يملك أحدهما برهان على تصوره، وطبيعي أن يختلفا في التصور لأنه غير مبني على إدراك حقيقة الواقع ولا يوجد عنده منطق ولا برهان، فالتعقل محل اتفاق بين الناس لأنه إدراك حسي، بينما التصور أمر محل اختلاف بينهم لانتفاء الواقع والبرهان، والذي أريد أن أقوله ينبغي على المتدبر للقرءان أن يفرق بين التعقل والتفكير والتصور، فليس كل أمر يعقله الإنسان يمكن أن يتصوره ، وبداهة لا يستطيع تصور أمر دون تعقل سابق له. ونفي التصور لا ينفي التعقل للشيء ، فمثلا نصدق بوجود الله من خلال فعل التعقل ولكن لا نستطيع أن نتصور ماهية ذات الله ، ومع ذلك يبقى التعقل ثابت ومبرهن عليه في الواقع.

ومعظم العلوم تقوم على التعقل والتفكير فقط ويصعب تحقيق التصور للأشياء لغيابها عن حواسنا وأدواتنا المعرفية ومع ذلك نحكم على وجودها ونتعامل معها بثقة ونبني عليها رغم نفي علمنا بماهيتها.

ولذلك لا يصح نفي التعقل للشيء لعدم تصورنا لماهيته أو طريقة حصوله، واعلموا أن حصول الشيء في الواقع بحد ذاته هو برهان على وجوده بصرف النظر عن نفي قدرتنا عن تصوره ، فالتصور أو نفي التصور ليس برهاناً على إثبات وجود الشيء أو نفيه ، لأن ذلك يتأتى من التعقل والبرهان وليس من التصور، التصور دائمًا يلحق ويتبع التعقل، ولذلك من الطبيعي عندما ينتفي التعقل ينتفي التصور.

ويوجد أمر لا يقل أهمية عما سبق وهو كيف تعمل القوانين الطبيعية ومدى نسبة حصولها في الواقع واستمرارها هل هي يقيناً  أم على غلبة الظن الدائم؟

يقول الفيزيائيون: إن عمل القوانين الطبيعية ليس يقيناً، ويمكن أن تتخلف النتيجة المألوفة في زمن ما ، وضربوا مثلاً على ذلك رمي الحجر في الكوكب الأرضي من الأعلى وهبوطه إلى الأسفل حسب القانون، ولكن يوجد احتمال ضئيل جداً بنسبة %0000000000001،0 صفر فاصلة مئة صفر وبعده واحد بالمئة  أن ترمي الحجر ويبقى في حالة طوفان في الهواء ولا ينزل إلى أسفل رغم أن الظروف ذاتها لم تتغير، ولكن هذا الفعل لا يحصل وحده وإنما لابد له من كائن واعي عليم يتحكم بالقوانين يتدخل في لحظة ما فيغير نتيجة القانون المألوف والمتعارف عليه  ويُفَعِّل قانون آخر وتتغير النتيجة.

إذًا القوانين الطبيعية على مختلف تنوعها تعمل بنسبة % 99999999999،99 ولا تعمل مئة بالمئة يعني ينتفي عنها اليقين ، ولكن نفي اليقين عنها لاينفي صفة الثبات والديمومة لها لأن نسبة نفي الحصول تكاد تكون بحكم العدم ناهيك عن لزوم تدخل كائن واعي عليم في حركتها وتوجها، لذلك يتجاهل علماء الفيزياء وغيرهم تلك النسبة ويتعاملوا مع الشيء حسب قوانينه الدائمة والثابتة رغم أنهم يعرفون أنها ليست يقيناً ولكن نسبة حصول التغير فيها في الواقع يحتاج لزمن طويل جداً أكبر من عمر مئات  الأجيال الإنسانية وربما أكثر حسب طبيعة الحدث والقانون وقد لا يحصل فالأمر احتمالي ومفتوح ، وهذا لا يتعارض مع النص القرءاني {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }الأحزاب62

{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }فاطر43

فالنصان يذكران ثبوت السنة وديمومتها عموماً وليس يقينية تطبيقها بعينها في الواقع دون احتمال تغيرها ، لأن الانتقال من سنة إلى سنة أخرى ليس خروجًا عن النظام وتغير السنن، وإنما انتقال من سنة إلى أخرى ضمن النظام العام ويكون ذلك بتدخل الكائن العليم القدير ضرورة.

وهذا يعني أن الدارس لنصوص القرءان المتعلقة بالكون أو بالقصص أو بالغيبيات ينبغي أن ينتبه لفعل التعقل وفعل التصور،  وطبيعة عمل القوانين الطبيعية وأنها دائمة وثابتة وليست يقينية، ونفي التصور عن مفهوم نص لا ينفي عنه التعقل، والتعقل للنص يتأتى من ثبوت النص تاريخياً لفظاً وكتابة،  وثبوت مصدريته الربانية و الوعد بحفظه، ودراسته وفق منهج قرءاني منطقي لساني واقعي، يعني عندما تقرأ نصًا قرءانياً فما ينبغي أن تتدخل في المبنى وتحاول أن تغيره وإنما تدرس المبنى على وضعه الراهن، ونفي تصورك لحصول الحدث أو استغرابك له لا ينفي تعقله وحصوله، واعلم أن المتكلم يريد أن يوصل لك مفهومًا عامًا من خلال النص كله  وليس مفهوم كلمات منفردة ومجزأة، فعندما يحصل لك الفهم الكلي للنص يكون هو المقصد والمهم بداية، وبعد ذلك إن أحببت أن تتصور كيف حصل الحدث وتدرس التفاصيل لا مانع من ذلك وهو أمر يهم الباحثين ولكن ما ينبغي نقض المفهوم العام أو الكلي الذي أوصله النص بكليته.

وصلنا الآن إلى دراسة موضوع القصص في القرءان

– أحداث القصص في القرءان لها وجود موضوعي حصل، وليست هي رمزاً أو مجرد مثل لتقريب فكرة معينة، كما أن دلالة كلمة القصص تتجاوز ذكر الأحداث إلى الآيات الكونية فهي من القصص أيضاَ.

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }يوسف3

{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران62

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }الأنعام130

– والقصص في القرءان ذُكرت للموعظة والعبرة، و الذكرى والدراسة، والعلم بالسنن التي تحكم الحدث، والعلم بالعواقب.

{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }هود120

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }النمل14

{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }هود49

  • قصة المسيح لها عدة محاور متفرقة ومتنوعة في أحداثها، سأتناول بعض المحاور حالياً وربما نرجع لبقية المحاور فيما بعد إن شاء الله، وسنبدأ بمحور أن المسيح كائن بشري هو وأمه، لنقرأ .

النبي “عيسى ابن مريم” كائن بشري

لقد عدَّ النصارى أن النبي عيسى هو لاهوت نزل في ناسوت وتجسد بصورة بشر، لذلك عندما ادَّعوا أنه وُضع على الصليب وصُلب فهم يقصدون جانب الناسوت (الجسم البشري)(1)  بينما ارتفع اللاهوت إلى السماء سواء أكان هو الله نفسه متجسدًا بصورة بشر أم ابن الله وبقي بجواره، ويقول بعضهم بنفي فصل اللاهوت عن الناسوت أبداً حتى في حالة الصلب، فالمفهوم عندهم مضطرب ومحل اختلاف شديد بينهم.

وبطريقة أو بأخرى تسلل مفهوم النصارى إلى ثقافة المسلمين وتم دَسَّه في ظلال القرءان تحت نصوص تناولت قصة النبي عيسى ابن مريم، فادَّعوا أن السيد المسيح هو كائن روحي بصورة بشر، ولكن ليس كمثل البشر فهو بين بين، وكأنهم يقولون: إنه نصف إله، ولذلك نسمع من بعض الغلاة  أن الملائكة كانت تنزل لهما بالطعام الروحي الخاص للسيد المسيح وأمه؛ لأنهما لا يأكلان طعام البشر!

فهل فعلًا السيد المسيح وأمه ليسا كائنين بشريين مثلنا؟

الجواب نجده في القرءان وهو حكم فصل وحجة وبرهان على الجميع:

{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].

النص صريح بأن السيد المسيح هو رسول مثل الرسل التي مضت، وهذا يدل على أن كل النصوص التي تناولت صفة الرسل تتناول السيد المسيح أيضًا كونه واحدًا من الرسل، نحو:

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [إبراهيم11:].

وينطبق عليه ما ينطبق على الرسول النبي الخاتمي أيضًا.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف:110].

ولإثبات بشرية السيد المسيح وأمه وقطع أي شك بحقيقتهما أتت كلمة (كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ)  لتؤكد على حقيقتهما الداخلية، وليس هو مجرد شكل بشري ناسوتي والمضمون لاهوتي، بل هما كائنان بشريان كمضمون وكشكل، وهما مثل البشر وليس كمثل البشر.

ولمن لا يأخذ بالنص القرءاني أو لم يفهمه نقول: ما يلد من البشر هو بشر ضرورة وله الصفات ذاتها،(لا يلد من اللحم إلا لحم) ويستحيل على البشر أن يلد غير البشر، فالمخلوق لا يُوجد خالقه ولا يلده.

هل الفعل يوجد فاعله؟

أو المحدود يحتوي اللا محدود؟

هل اللا محدود يدخل في المحدود؟

ما لكم كيف تحكمون.

– {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران59

انتبهوا لوجود حرف الكاف للتشبيه وهو يفيد نفي التماثل الكامل ويثبت التماثل الجزئي في صفة معينة يحددها السياق وتعلق الخطاب .

اقرؤوا

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }الجمعة5

فالتشبيه جزئي بصفة متحققة بالحمار وليس تشبيه كامل بالتماثل مع الحمار فالناس ليسوا حميراً كشكل ومضمون، والتشبيه الجزئي حدده النص بكلمة : ( يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) وهذا يعني أن التشبيه تعلق بصفة الحمل للأسفار على ظهر الحمار وهو لا يعرف محتواها ولا يستفيد منها شيئًا .

وتشبيه خلق المسيح كخلق آدم لا يعني التماثل الكامل أنه خلقه من تراب ، فالقرينة الواقعية أن المسيح ولد ولادة ولم يخلق من تراب مباشرة ، فالتشبيه أتى بجزء يماثل جزئية خلق آدم من كونه ليس له والداً وكلمة آدم في النص لا تعني شخص آدم المصطفى فهو له والدين ، وإنما تعني أصل الخلق للحياة بصورة معينة قبل ظهور الأجناس.

{قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{45} وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ{46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ َيَكُونُ{47} }آل عمران

يوجد في النصوص هذه كلمات مفتاحية سنقوم بدراستها واحدة بعد الأخرى لنشكل مفهوماً عامًا للنصوص.

(الكلمة، المسيح، عيسى بن مريم، المهد، يمسسني)

– الكلمة وجمعها كلمات بخلاف الكلم وجمعها كلام، لنقرأ:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }التوبة6

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }البقرة75

فكلام الله هو الخطاب اللساني الذي أتى من عند الله ومؤلف من جمل ونصوص يُتلى ويُسمع ويمكن أن يُحرَّف معناه ويُبَدَّل.

كلمات الله لنقرأ:

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنعام115

{وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }يونس82

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }الكهف109

كلمات الله لا تُبدل وهي تحق الحق ، وكلمات الله لا يمكن إحصاؤها من قبل الناس لسعتها وكثرتها، وبذلك تكون كلمات الله هي الوجود الموضوعي ذاته بعناصره وسننه التي تحكمه، ولذلك تم وصف المسيح بأنه كلمة الله لأن طريقة خلقه وولادته  تمت بتوجيه كلمة الله له مباشرة ولم يُخلق بكلمة الخلق الأولى التي ظهر منها سائر الخلق، بمعنى أن خلق المسيح لم يتم نتيجة استمرار سنة الخلق الأولى من آدم من خلال التكاثر الزوجي، وإنما تم خلقه بسنة تعلقت به خاصة له من سائر الناس

– المسيح: على وزن فَعيل مثل قتيل ، وهي من الفعل الثلاثي مسح، واسم الفاعل ماسح، واسم المفعول ممسوح، والصفة المشبهة باسم مفعول هي المسيح، والمسيح هو ممسوح مثل أن القتيل هو المقتول.

وكلمة مسح تعني إمرار شيء على شيء يسويه سواء بشكل مادي أو معنوي، ومنه مساحة الأرض إذا كانت أرض ممرر عليها شيء فجعلها ممسوحة قريبة للاستواء، أو مرر عليها أداة القياس لمعرفة مساحتها، وهكذا، والإنسان الممسوح الذي تم تمرير اليد عليه وتحريكها على رأسه أو جسمه.

وعيسى بن مريم أخذ صفة المسيح قبل ولادته كاسم له لازمه طوال حياته، لا علاقة له بمسح الأرض واتباع بني إسرائيل ولا أنه قد تم مسحه بعد الولادة مثل التعميد ، وإنما من مسحه ابتداء قبل ولادته من المعاصي والدنس والخطايا وصار طاهراً طوال حياته فصار اسمه المسيح.

– كلمة المس تعني جمع متصل بحركة حرة وظهرت بصورة تداخل شيء في شيء وتمكنه منه مثل مس الشيطان {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }البقرة275، بمعنى أن هذا الشخص كالمصاب بحالة الهذيان والجنون وعدم الاتزان، والمس تمثل بحالة تداخل الرجل والمرأة في جسميهما بحالة الجماع، والسيدة مريم نفت مسها من قبل أي كائن بشري وهذا نفي لفعل اللقاح لها من أي ذكر

– المهد كلمة تدل على جمع متصل مؤرجح بخفة وعمق منتهي بدفع شديد، وتمهيد الأرض معروف بمعنى تهيئتها وتسويتها وتحضيرها وإزالة العوائق والمرتفعات منها، وسمي فراش الولد مهداً لتحقق المعنى به، وسميت جهنم مهاداً لأنها هيئت للكافرين وتحضرت ليجلسوا فيها  {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً }النبأ6 {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ }ص56

وكلمة مهد في نص المسيح حسب السياق تعني فراش الطفل الذي ينام عليه، وهذا دليل على أن المسيح يكلم الناس وهو في مرحلة الطفولة المبكرة قبل أن يستطيع السير، وذكر أنه سوف يكلمهم  كهلا في النص  إشارة لحفظ المسيح من القتل أو الموت وهو طفل بعد أن علم اليهود بقصته، وأنه سوف يبلغ  مرحلة الكهولة بسلام ويقوم بمهمة الدعوة والتعليم لبني إسرائيل.

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }مريم29، وكلمة صبيًّا تطلق على المولود الذكر من ولادته حتى الفطام، وهي كلمة مستخدمة في بلاد الشام للآن عندما تلد المرأة يسألها الناس ماذا أنجبت صبي أم بنت، فتقول: صبي.

– نسبة عيسى لمريم جعل الله المسيح وأمه آية من آيات الله، {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }المؤمنون50، هذه نقطة مهمة ينبغي استصحابها أثناء الدراسة لأن جعلهما آية كان لهما شخصياً نتيجة طبيعة ولادة المسيح وهذا فعل مشترك بين المسيح وأمه، ولا يكون ذلك لفعل ولادة طبيعية مثل سائر الناس

ونقول لمن يقول إن ولادة المسيح طبيعية مثل سائر الناس تمت من لقاح ذكر أو زواج، وذلك لعدم قدرته على تصور هذا كيف حصل الحدث ومخالفته للمألوف وليس للنظام الكوني وسننه ، وقد ذكرت آنفاً إن عمل القوانين الطبيعية ليس يقيناً وإنما هي دائمة وثابتة  على المدى الطويل و  تعمل بنسبة  99،99999999 % ، مع وجود احتمال تغير النتيجة بنسبة %0،00000001

ومسألة كلام المسيح وهو في حال الطفولة المبكرة وهو ما زال لا يستطيع السير ثبت في النص فلا يصح مخالفته أو تعديل مبنى النص  تحت أي مبرر، لنقرأ:

{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا{23} فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا{24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا{25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا{26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا{27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا{28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا{29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا{30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا{31} وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا{32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا{33} سورة مريم

المفهوم العام من النصوص واضح بأحداثه، أتت السيدة مريم قومها وهي تحمل طفلًا ، وقومها يعرفون أنها غير متزوجة، لذلك استغربوا من تصرفها هذا وطلبوا منها تبرير سلوكها وإعلامهم من أين أتت بهذا الطفل؟ فأشارت للطفل ، وهذا يدل على صعوبة الوضع الذي هي فيه وعدم القدرة على توصيل الفكرة منطقياً، ولذلك أمرها الرب بالصيام عن الكلام ولا تتدخل في تبرير الحدث، لأن الحدث في أصله غير مألوف ولا مقبول عموماً من قبل الناس لمخالفته عمل القوانين الطبيعية السائدة، ولذلك يحتاج تبرير وتفسير خارج المنطق السائد يفيد عند المتلقي أو المشاهد قطعية صوابه،  وبدرجة حصول الحدث ذاته كولادة دون زواج أو لقاح ذكر يثبت طهارة السيدة مريم ويثبت نسب الولد إلى أمه، فتكلم المسيح ، وكان كلامه وهو صبي في  المهد تحمله أمه برهاناً على طهارة أمه وصحة نسبه إليها، وأخبر عن  نبوته، وحدث كلام المسيح في المهد هو مثل حدث ولادة أمه دون زواج ولا لقاح من ذكر، فكيف نتعامل مع حدث ولادة السيدة مريم نتعامل مع حدث كلام المسيح وهو صبي في المهد،إما أن تقبل الحادثتين مع بعض أو ترفضهما مع بعض،  ولا ننس أننا نتعامل مع حدث الفاعل فيه هو الرب وليس كائناً بشرياً، وكون الفاعل هو الرب فهو قادر على التدخل بعمل القوانين وتوجيها دون الخروج عن النظام الكوني العام، ولم يغط القرءان أخبار المسيح وأمه بعد هذا الحدث، وهذا يعني رجوع الأمور إلى طبيعتها المعيشية والحياتية  بمعنى أن المسيح لم يعد يتكلم وتابع نموه الطفولي مثل سائر الأطفال حتى كبر ووصل إلى سن يؤهله ممارسة مهام النبوة.

وسأعرض مجموعة من التساؤلات لتحفيز التفكير و لمساعدة الأخوة على فهم قصة ولادة المسيح

1- لماذا ضرب الله مثلا لخلق المسيح بخلق آدم؟

2- طالما أن ولادة المسيح عادية مثله مثل سائر الناس كما يقول بعضهم، لماذا ذكرت في القرءان ، وما هو الشيء المهم في ذلك مادام كل الناس يولدون من والدين ؟

3- لماذا جعل الله المسيح وأمه آية إذا كانت ولادتها مثل سائر الناس؟

4- لماذا نُسب المسيح لوالدته عيسى بن مريم دون والده مع العلم أن الأصل هو نسبة الولد لوالده في حال وجوده والعلم به، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }الأحزاب5؟

5- لماذا قال المسيح : {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً }مريم32، ولم يقل ( بوالدي) إن كان والده موجوداً أم الوالد ليس محلا للبر والإحسان ولا يستحق ذلك ؟

6- لماذا نفت السيدة مريم مس أحد من البشر لها طالما لها زوج وقد مسها، هل تكذب؟

هذه ستة نقاط ليست للحصر لتبين تهافت ادعاء وجود والد من الناس للمسيح وأن السيدة مريم لها زوج ولكن بالخفاء وقالوا اسمه النجار .

ولا ننس تهافت ما ظهر حديثاً من قول بعضهم أن السيدة مريم خنثى وهي لقحت ذاتها بذاتها  وقد أجرى النبي زكريا عملية قيصرية لولادتها، حتى تجرأ أحدهم وقال: إن النبي زكريا هو الذي لقحها اصطناعياً، وكان الطب متقدماً جداً حينئذ ويعرفون الاستنساخ واللقاح خارج الرحم، حتى المسيح صار طبيباً وجراحاً حاذقاً وماهراً، وصار اسمه الطبيب المسيح  النبي عيسى بن مريم!

والحمد لله رب العالمين

وشكرًا لحسن إصغائكم

(1) مع العلم أنه جرى نقاش مع أحد المثقفين النصارى فأخبرني أنهم لايقولون بانفصال اللاهوت عن الناسوت أبدًا حتى في حالة الصلب أو  ولادة المسيح من بطن أمه أو حمله في رحمها!