مفهوم

الغلام و المَهد والصبي

نزل القرءان بلسان عربي مبين وليس بما هو سائد عند الناس اصطلاحاً، ولذا؛ حين دراسة القرءان ينبغي استبعاد ما هو شائع عند الناس من اصطلاحات لسانية وثقافية ، والتعامل مع القرءان وفق منهجه الموجود في داخله.

وينبغي أن ننتبه إلى قاعدة إذا اختلف المبنى اختلف المعنى، وقاعدة إن الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم واحد لساني ثابت كجذر ولها معاني كثيرة يحددها المتكلم من خلال استخدامه للكلمة في سياق معين

مفهوم كلمة الغلام

دلالة كلمة الغلام السائدة بين الناس بمعنى الولد الذكر الذي يكون من سن أربع أو خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، وتلقَّف ذلك الاصطلاح معظم الباحثين في القرءان وبناء عليه فهموا أن كلمة غلام لا تتناول الوليد حديثاً، ونفوا عن المسيح أنه تكلم وهو وليد في المهد.

لنقرأ ماذا يقول أصحاب المعاجم في دلالة كلمة غلام

1- نقل ابن منظور في  لسان العرب ما يلي:

الغُلْمةُ،  شهوة الضِّراب. غَلِمَ الرجل وغيره، يَغْلِمُ غَلماً واغتلم اغتلاماً إذا هاج، وفي المحكم: إذا غُلب شهوة وكذلك الجارية.

وروي في حديث تميم والجساسة: فصادفنا البحر حين اغتلَمَ أي هاج واضطربت أمواجه.

– قال الكسائي: الاغْتلام أن يتجاوز الإنسان حد ما أمر به من الخير والمباح، أي الذين جاوزوا الحد.

  • قال ابن الأعرابي: الغُلُمُ المحبوسون، قال: ويقال فلان غُلام الناس وإن كان كهلاً، كقولك فلان فتى العسكر وإن كان شيخاً.
  • قال ابن سيده: الغلام الطَّارُّ الشارب، وقيل: هو من حين يولد إلى أن يشيب.

2- القاموس المحيط

قال: والغلام: الطار الشارب، والكهل ضد، أو من حين يولد إلى أن يشِبَّ.

3- مقاييس اللغة لابن فارس

الغين واللام والميم أصل صحيح يدل على حداثة وهيج شهوة. من الغلام، هو الطار الشارب

نلاحظ من خلال قول أصحاب المعاجم أن دلالة كلمة (غلام) لا تعني مرحلة عُمرية معينة وإنما صفة سلوك تتمثل بالإنسان سواء أكان صغيراً أو كبيراً، وهي الهيجان والاضطراب وعدم الاستقرار، وسمي الطفل الصغير غلاماً لهيجانه واضطرابه وعدم استقراره العقلي والمنطقي في الحكم على الأشياء والتعامل معها.

لنقم بتحليل أصوات كلمة ( غَلِم) لنعرف مدى صواب  قول أصحاب المعاجم

غَلِم: الغين واللام والميم

الغين: صوت يدل على غياب

اللام: صوت يدل على حركة ثقيلة لازمة

الميم: صوت يدل على جمع متصل

مجموع الأصوات بهذا الترتيب (غَلِم) يدل على حركة غائبة تتحرك بثقل لازم منتهية بجمع متصل.

وظهر ثقافياً بصورة حركة الشيء بشكل مغيب ولازم لصاحبه بثقل يجتمع فيه، ولذلك قال أصحاب المعاجم هو الاضطراب والهيجان وفوران الشهوة وما شابه ذلك لأن الإنسان عندما يكون بهذه الحال فهو مُغيَّب العقل والوعي والإدراك ويتحرك بشكل شعوري عاطفي انفعالي، وهذا يدل على أن فهم أصحاب المعاجم صواب، وأن دلالة كلمة (غلام) لا تعني مرحلة عُمرية بذاتها، ولكن من كان في مرحلة الطفولة فهو غلام قطعاً لغياب حركة الوعي والإدراك عنده وتحركه بشكل مضطرب وانفعالي، وتتمثل هذه الصفة بالوليد وما فوق ويمكن أن تتمثل تلك الصفة في إنسان كبير أيضاً.

لنقرأ كيف استخدمها القرءان

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }مريم7

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }مريم8

واضح في النص أن البشرى بولادة طفل ذكر للنبي زكريا وهو كبير في السن وامرأته عاقر، فرد النبي زكريا بقوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ) واستخدم كلمة غلام على موضوع البشرى بالولادة للطفل الذكر وهو لم يلد بعد ومع ذلك وصفه بالغلام.

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }الكهف74

وتابع النص يفسر له سبب القتل : {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً }الكهف80

واضح من الحدث أن الغلام طفل كبير وهو يتبع قومه في الكفر والعناد والضلال بسبب تأثير حالة القطيعية والأكثرية

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }الكهف82

واضح في الحدث أن الغلامين طفلين كبيرين دون سن الرشد دل على ذلك صفة اليتم لهما، لأن اليتيم هو من فقد والده دون سن الرشد

{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }يوسف19

واضح من الحدث أن عمر النبي يوسف كان دون سن الرشد وكون أخوته أخذوه ليلعب معهم

فهذا يعني أنه يستطيع أن يعتمد على نفسه في الحركة واللعب والسير وهذا يكون من أربع سنوات وما فوق

{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ }الحجر53

البشرى للنبي إبراهيم قبل أن تحمل زوجته ومع ذلك أتى وصفه بكلمة غلام ويقصد بها ولادة طفل ذكر

{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً }مريم19

{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }مريم20

واضح من الحدث أن مريم لم يكن عندها ولد وليست هي متزوجة ولم يمسسها بشر بأي علاقة جنسية، وتم استخدام كلمة غلام كوصف للولد قبل ولادته وبعد ولادته فهو غلام.

إذاً؛ كلمة الغلام وصف يطلق على الإنسان منذ الولادة إلى مرحلة الشيخوخة طالما هو مغيب الوعي والإدراك ويتحرك بشكل انفعالي غير منضبط في سلوكه ومحاكمته المنطقية.

وهذا يدل على أن كلمة الغلام في نص السيدة مريم يقصد به الوليد لتمثل به دلالة الغلام.

2- مفهوم كلمة  المهد

معروف كلمة المَهد أنها تدل على المكان الذي يُمَهَّد للطفل لينام فيه، وهو بمعنى التوطئة والتجهيز والتسهيل و الإصلاح والإعداد لشيء لحصول أمر عليه.

لننظر قول أصحاب المعاجم في دلالة كلمة مهد ومهاد

– صاحب لسان العرب قال: مَهْدُ الصبي ، موضعه الذي يُهيأ له ويوُطَّأ لينام فيه

– القاموس المحيط قال: المهد الموضع يُهيأ للصبي؛ويُوَطَّأ، والأرض كالمهاد

– مقاييس اللغة: مهد : كلمة تدل على توطئة وتسهيل للشيء

لنقرأ استخدام القرءان لكلمة (مَهَد) واشتقاقها كيف أتت

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى }طه53

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الزخرف10

{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً }المدثر14

النصوص تنطق بدلالة كلمة مهد وبشكل واضح أنها تعني التجهيز والتيسير والإعداد والتوطئة والتسهيل لممارسة شيء واستخدامه بسهولة

{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }آل عمران46

النص يذكر أن المسيح سوف يتكلم في مرحلة وضعه في المهد وهذا يعني في مرحلة صِباه المبكرة كمولود، وسوف يتكلم أيضاً في مرحلة الكهولة وهي فوق الأربعين من العمر، وهذا يدل على عصمة المسيح من القتل خلال  مراحل حياته وأنه سوف يطول عمره و ينجز مهمة الدعوة و الرسالة على أكمل وجه.

  • مفهوم الصبي

دلالة كلمة الصبي كعادة معظم الباحثين فهموها من خلال المعنى الشائع بين الناس وهو الطفل الذكر منذ فطامه إلى عمر اثني عشر عاماً ، وهذا اصطلاح شعبي وليس دلالة الكلمة لساناً، فهل الطفل قبل العامين ليس صبياً؟ وهل الطفل بعد اثني عشر عام ليس صبياً؟

لنقرأ دلالة كلمة صبي في المعاجم

  • مقاييس اللغة ابن فارس

صبي: الصاد والباء والحرف المعتل ثلاثة أصول صحيحة: الأول يدل على صغر السن، والثاني ريح من الرياح، والثالث الإمالة.

ورأيته في صِباه أي صغره.

  • القاموس المحيط

الصبي من لم يُفطم بعد

  • لسان العرب

الصبي: من لدن يولد إلى أن يُفطم

نلاحظ في المعاجم أنهم قالوا :إن الصبي صفة تطلق على الولد الصغير، وتطلق على الولد الذكر منذ ولادته إلى أن يبلغ الفطام والحد الأعلى للفطام هو عامين كما هو معروف، فهل الطفل بعد العامين لا يسمى صبياً ؟

نلاحظ أن أصحاب المعاجم أتوا بدلالة كلمة صبي ولكن ذكروا لها صورا معينة التي كانت سائدة في زمنهم بخلاف ابن فارس فقد أطلقها وقال: صغر السن، وكلامه هذا يدل على أن كلمة الصبي تطلق على الوليد إلى أن يبلغ سن الرشد، لأن من بلغ سن الرشد لم يعد صغيراً.

لنرى دلالة كلمة صبي من خلال تحليل أصوات الكلمة

صبي:

الصاد: صوت يدل على حركة محددة

الباء: صوت يدل على حركة مجتمعة باستقرار

الياء: صوت يدل حركة وإثارة ممتدة زمنياً

ومجموع الأصوات بهذا الترتيب(صبي) يصير المفهوم الجذري للكلمة: حركة محددة ومنضبطة تتجمع على ذاتها باستقرار ممتدة بإثارة زمنياً.

وظهر ثقافياً في الشيء الذي يتحرك بشكل محدد ويتجمع على ذاته باستقرار ويمتد زمنياً اسمه صبي، ونلاحظ هذا المفهوم قد تحقق منذ ولادة الطفل مع استمرار ذلك إلى أن يتوقف عنده النمو عند بدء سن الرشد الذي هو عشرون عام، وهذا ما يستخدمه العامة أيضاً في قولهم للذكر صبي عندما يرونه كبر واقترب من سن الرشد ، وكذلك للبنت عندما تكبر وتقترب من سن الرشد فيقولون عنها صبية، وقولهم هذا لاينفي صفة الصبي والصبية عن الطفل سابقاً وإنما هو استخدام اصطلاحي شعبي، لايصح عده برهانًا على دلالة الكلمة في هذه المرحلة العمرية، والحجة والبرهان هو مفهوم الكلمة في اللسان العربي وحسب تحليل أصوات الكلمة نجد أن قول ابن فارس هو الصواب ، كلمة صبي تدل على صغر السن منذ الولادة إلى قبل سن الرشد

لنقرأ القرءان ونرى كيف استخدم كلمة صبي

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }مريم12

واضح من النص أن كلمة صبياً لا يُقصد بها مرحلة الولادة والطفولة المبكرة، لأن الحكمة لا تؤتى في هذه المرحلة، وهذا يعني أن الحكمة أوتيت له في مرحلة ما قبل سن الرشد بقليل ربما بعمر خمسة عشر عام حيث يكون الولد حصل عنده الوعي والتمييز بشكل جيد

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }مريم29

لنأتي بنصوص أخرى لنحدد دلالة كلمة (صبياً)

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }لقمان14

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً }الأحقاف15

{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً }مريم22
نلاحظ أن كلمة ( الحمل) في هذه النصوص تعلقت بحمل الجنين في بطن أمه، وهذا يدل على أن السيدة مريم حملت بالمسيح كسائر النساء ومن ثم وضعته ولادة كسائر النساء، اقرؤوا:
{فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً }مريم23، والمخاض هو عملية الدفع والتقلص للرحم لدفع المولود إلى الخارج ويرافقه ألام شديدة.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }مريم27

أتت السيدة مريم إلى قومها  بعد الولادة وهي تحمل ابنها، وهذا يعني أنه لا يقدر على السير بعد أو الوقوف، وعندما أتى النص وذكر (فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) دل ذلك ضرورة على

أن  دلالة كلمة صبياً تتعلق بطفل وليد في مرحلة مبكرة وهو موضوع في مَهد حسب دلالة كلمة المهد.
لذلك لا يصح استخدام دلالة هذه الكلمات بالمعنى الشائع وبناء عليها مفاهيم بمعزل عن دراستها اللسانية والاستخدام القرءاني لها وفق سياق معين، فالحكم لمفهوم الكلمة لساناً وللاستخدام القرءاني لها وفق محل الخطاب فهو يحدد المعنى المقصود من خلال منظومة ترتيل النصوص المتعلقة بالموضوع.