مفهوم التسلسل و قِدَم العالم أو لا نهائيته

 

     التسلسل: من سلسل وهي كلمة مكررة مدمجة وأصلها (سل) مثل (كركر، شرشر، زلزل) وتدل على الحركة الحرة اللازمة والمتثاقلة، ومن هذا المفهوم ظهر دلالة الانسحاب من الشيء بخفة وهدوء ولطف (انسَلَّ وسَلَّال) وسُمي العمل التلفزيوني متعدد الحلقات مسلسل، وسميت حلقات المعدنية المتصلة مع بعضها سلسلة لتحقق بها الحركة اللازمة المكررة ، ومن ذلك الوجه ظهر مفهوم التسلسل الذي يدل على تعلق الأمور ببعضها وتتاليها سواء في جهة الماض أو جهة المستقبل.

 القديم: من قدَم وتدل على ابتداء وجود الشيء سابقاً وحضوره واستمراره، ولذلك يقال: القديم ضد الحدوث بمعنى أن له وجود سابق ولم يحصل الآن.

الأزلية: أتت من مفهوم (لم يزل) لتدل على الوجود دون بداية (كينونة أحدية) مع بقائه واستمراره على ما هو عليه(الصمد) دون تغير أو تحول أو توالد منه شيئاً (لم يلد ولم يولد) أو نهاية  له، ولذلك هو الحي القيوم ليس كمثله شيء ولم يكن له كُفواً أحد

  السرمدية: أتت من سرمد وهي مؤلفة من كلمتين (سر + مد) وتعني وجود الشيء بداية وسيرورته امتداداً مندفعاً إلى الأمام دون توقف أو نهاية وهذا إرادة وحكم من الفاعل.

بعد ضبط تعريف هذه المفاهيم ندرس قول ابن تيمية بقدم العالم وماذا يقصد به، وهل أصاب من اتهمه بأنه يقول بوجود حوادث أو عالم لا أول له؟ بمعنى أزلية العالم أو الوجود المادي.

هل فعلاً ابن تيمية لا يفرق بين مفهوم القديم ومفهوم الأزلية وهو من هو برجاحة عقله ومنطقه؟

لنقرأ ماذا قال:

[ (التسلسل في الآثار فيراد به أن يكون أثر بعد أثر، فلا يكون حادث إلا بعد حادث، ولا يكون حادث حتى يكون قبله غيره من الحوادث ، فتتسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي والمستقبل).

(و أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم يقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث)

(وأن قِدَم النوع لا يستلزم قدم العالم، ما دام الفعل مسبوقاً بفاعله، كما عليه السلف والأئمة).

(واتفق سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله… كل ما سوى الله مخلوق، حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو الأزلي، ليس معه شيء تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالأزلية، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له) ](1)

كلام ابن تيمية واضح وصريح في إثبات عدة قضايا وهي :

  • الله الخالق هو الأزلي فقط وهو الأول لم يسبقه شيء ولا يشاركه أحد في تلك الصفة
  • كل ما سوى الله مخلوق وحادث
  • كل مخلوق هو كائن بعد أن لم يكن
  • هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله
  • الفعل مسبوقاً بفاعله ضرورة
  • نفي التسلسل للخلق الفعلي دون بداية

إذًا؛ ابن تيمية لا يقول بأزلية العالم، وإنما يقول إن كل عالم خُلق من مادة مخلوقة قبله بشكل متسلسل قديم لا نعرف بدايته ولا نستطيع أن نحدد نقطة البدء لأن ذلك الخلق يحصل على شريط مفهوم الأزلية ، والله خالق وخلَّاق ، وطبيعي أن يصف ذلك الفعل للخلق بأنه قديم ، وكل فعل هو حادث وله بداية و مسبوق بفاعله ضرورة، وفرَّق بين الحدوث لكل فعل في الواقع مثل عالمنا الذي نعيش فيه وبين مفهوم الخلق نوعاً لأن مفهوم الخالق هو اسم فاعل للكائن الأزلي الذي عبر عنه بكلمة قدم النوع، فهو متسلسل  نوعاً ولا نستطيع أن نحدد نقطة بدايته على شريط مفهوم الأزلية، مع القطع ببداية كل خلق حادث وأنه مسبوق بفاعله ضرورة.

وهذا يعني أن مفهوم التسلسل صار نوعين:

  • تسلسل أزلي فعلي في الماضي ممتنع منطقياً؛ بل يستحيل وجوده وهو الذي يتعلق بتسلسل وجود للحوادث دون بداية يعني فعللة (فعل من فعل) مستمرة في الماضي دون نهاية لها بالنسبة للفاعل الأزلي يعني لا أول لها،  ومجموع الحوادث مهما امتد في الزمن هو حادث ضرورة، ولأن هذا ينفي رجوعها لفاعل أزلي ابتدأ حدوثها وهذا الافتراض ينقض مفهوم السببية ويجعل الفكرة عبث ووهم ذهني.
  • تسلسل قديم غير مُعين مقبول منطقياً وهو يتعلق بوجود كل حادث من حادث قبله بشكل مستمر دون قدرة الراصد أو الدارس على تعيين أول حادث لأن الفاعل أزلي وهو خلَّاق بينما الراصد حادث وهو جزء من الوجود الحادث وقاصر في علمه وأدواته المعرفية وبالنسبة إليه يحكم على هذا الموجود بلا نهاية .

لنقرأ الآن مثل يأتي به كثير من الفيزيائيين والفلاسفة وغيرهم على تسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية

يقولون: نفترض أنه يوجد مكتبة فيها كتب لا نهائية العدد ودخل إليها قارئ وبدأ بقراءة الكتب هل يستطيع أن يصل إلى اللانهاية ويقرأ كل الكتب، وجوابهم هو لا يستطيع طبعاً أن يقرأ كل الكتب أو يصل إلى الكتاب الأخير لأن اللانهاية ممتدة في الوجود الماضي السحيق دون توقف  وهكذا الوجود الكوني الحادث فهو لا نهائي في الوجود الماضي ومستمر إلى ما لانهاية، وبناء على هذا المثل نفوا وجود الفاعل الأزلي، ويوجد غيرهم أتى بالمثل ذاته وأثبته مع إثبات حدوث كل كتاب ولابد له من كاتب ضرورة وبالتالي أثبت وجود الخالق الأزلي مع حكم اللانهاية  لفعله حقيقة بالنسبة له.

لنحلل هذا المثل وننقده

  • المثل افتراضي سواء المكتبة أو الغرف اللانهائية التي في فندق ( مثل آخر يعرضوه) يعني ليس هو حقيقة ولابرهان عليه وغير واقعي بل هو حالة تخيلية ذهنية حكمية بالنسبة إلى الراصد ولايصح البناء عليها أبداً لأن القارئ للكتب هو حادث وليس هو من كتب الكتب وأوجد المكتبة ، المثل باطل.
  • انطلقوا من أن الجزء الذي هو الكتاب مثلًا هو محدود وحادث ضرورة ومع ذلك قالوا بوجود حوادث ( كتب) لانهائية في وجودها، ومن المُسَلَّم به في المنطق أن مجموع المحدودات محدود ضرورة مهما امتد في الزمن أو كثر، يعني الكتاب الواحد مفتقر إلى كاتب ضرورة ويحتاج في وجوده إلى كاتب، وما ينطبق على كتاب واحد ينطبق على جنس الكتب كلها فكيف تصير هذه الكتب لانهائية في وجودها بالنسبة للكاتب ( الفاعل ) وليس القارئ؟
  • افتراض وجود لانهائي للكتب والكتاب الواحد حادث ضرورة ومفتقر إلى كاتب يلزم من ذلك لانهائية الكاتب، ومنطقياً يكون الكاتب( الفاعل) يسبق فعله ضرورة، وهذا يوصلنا بشكل منطقي إلى أن الفاعل له وجود قبل صدور كتابه، ويوصلنا إلى أن الكتاب حادث وله بداية و لابد من وجود كتاب أول سابق كل الكتب حسب التراتبية الفعلية وهو حادث ومسبوق بالكاتب ضرورة.
  • مفهوم اللانهاية هو مفهوم عقلي وحال و وصف وحكم وليس مفهوماً كميًّا وعدديًا، لنأخذ مثلاً الأرقام في الرياضيات لتقريب الفكرة.

الأرقام التي نستخدمها في التكرار الذهني واحد اثنين…. مليون مليار…الخ، هي حال ذهني تجريدي ممتد إلى ما لانهاية غير مرتبط بالشيء، وعند ارتباط الرقم بالشيء يظهر مفهوم العدد فنقول عدد الكتب مليون أو مليار، فالذي تشيأ وتعين وظهر في الواقع هو الكتب وليس الأرقام، فهل الكتب لانهائية في وجودها بالنسبة لكاتبها ؟ أم هي حادثة ومُعَيَّنة وبالتالي يمكن إحصاءها وعدها وينتهي العد والإحصاء عند نهاية الكتب وصفاتها وعناصرها، وهذا يعني لاوجود حقيقي لمفهوم اللانهاية في الواقع وإنما له وجود ذهني تجريدي في الرياضيات فقط، ومن الخطأ المنطقي استخدام مفهوم اللانهاية على الوجود الحادث فهذا تناقض منطقي، لذلك لايوجد في الفيزياء مفهوم اللانهاية إلا بالنسبة للراصد الحادث.

  • عندما جعل بعض الرياضيين مفهوم اللانهاية يتعلق بالكم وليس هو وصفاً وحالاً قالوا بوجود مفاهيم غريبة في الرياضيات يقف العقل عاجزاً عن تصورها، فقالوا بوجود لا نهاية أكبر من لانهاية وأتوا بمثل لانهائية الأرقام الصحيحة وأتوا بلانهائية الكسور والأجزاء بين رقمين فقط، ومنطقيا لاشك أن مفهوم الأرقام أكبر من مفهوم الكسور بين رقمين وكلاهما لانهائيين وهذا يعني ضرورة أنه يوجد لا نهاية أكبر من لانهاية كونها هي ضمنها وجزء منها وكلاهما مستمرين ذهنياً دون توقف.

ونقول لهم: كلامكم صواب أنه يوجد لانهاية أكبر من لانهاية ؛ ويوجد لانهاية تسع لانهاية، ولكن هذا الكلام يتعلق بالكم الذهني ولايتعلق بالوصف والحكم، ومفهوم اللانهاية هو وصف وحكم وليس كمَّا أو مقداراً، والنقطة الثانية هو مفهوم اللانهاية الرياضي هو مفهوم افتراضي ذهني تجريدي لا واقع له  ولا يمكن تصوره، لأن الواقع (الكتاب) حادث ضرورة بوجوده زمنيًا ومحدود بعناصره سواء الكلية أو الجزئية ، بمعنى عدد أوراق الكتاب معلومة، وعدد الكلمات في الصفحة الواحدة معلومة، وإن افترضنا أننا قمنا بتقطيع الكتاب كله إلى أصغر أجزائه الممكنة وقمنا بتقطيع صفحة من صفحات الكتاب إلى أصغر أجزائها الممكنة فلا شك أن أجزاء الكتاب أكبر من أجزاء الصفحة وكليهما محدود ويمكن عد أجزائه وإحصاءها لأنه يستحيل الاستمرار إلى دون نهاية في فعل تقطيع أجزاء الكتاب أو الصفحة ولابد من الانتهاء عند جزء غير قابل للتجزء ويكون هو العنصر الخام الأصل في وجود الكتاب وهو حادث ضرورة لأنه شيء وفعل صدر من فاعل قبله وسابق عنه ضرورة، وهذا يعني أنه لا وجود  حقيقي لمفهوم اللانهاية في الواقع الشيئي (الفيزياء) وإنما له وجود ذهني رياضي افتراضي غير شيئي وهو حكم وصف وليس مقداراً أو كماً ولذلك يوجد رياضيًا لانهاية أكبر من لانهاية حكماً لاستمرار اللانهاية الجزئية في اللانهاية الكلية وتسعها.

وهذا يوصلنا لنفي مفهوم اللانهاية عن الوجود الشيئي بالنسبة للفاعل الأزلي ولابد ضرورة من حدوثه كما وكيفاً ، وبالتالي يمكن عده وإحصاءه من قبل الفاعل، فكل فاعل يستطيع أن يَعُد ويُحصي فعله، وهذا يعني نفي القدرة عن الفاعل الحادث أن يعد أو يُحصي الوجود كله لأنه هو جزء من هذا الوجود، بينما الفاعل الأزلي الذي هو مُغاير لفعله قادر على أن يعد فعله ويحصيه .

والقول بحدوث  وجود الكتاب الواحد وأي كتاب مع افتراض القول بلانهائية الكتب بالنسبة للكاتب (وليس القارئ) في المكتبة يلزم من ذلك أيضاً ضرورة لانهائية وجود الكاتب، لأن الكاتب سابق في وجوده عن كتابه، فإن افترضنا الإصرار على استخدام مفهوم اللانهاية على وجود الكتب مع القول بحدوث كل كتاب يلزم هذا أن الفعل يصدر من الكاتب اللانهائي لزوماً خارج عن قدرته وعلمه وإرادته ضرورة وهذا ينفي صدور الفعل منه ويصير هذا الفعل لازم لكينونة الفاعل ذاته ولاينفك عنه ويأخذ حكم الفاعل ابتداء بمفهوم الأزلية ، وكل ذلك باطل منطقياً مخالف لصفة الفعل أنه حادث ومخالف لمفهوم أن الفاعل يسبق في وجوده فعله، والفاعل أزلي وهذا يعني بالضرورة أن يكون فعله حادثً له بداية و أول يصدر من الفاعل بإرادته وعلمه وقدرته وحكمته بعد أن لم يكن شيئاً، وهذا الفعل كونه يصدر من فاعل أزلي لا يمكن تعيين بدايته أو الأولوية بالنسبة للكائن الحادث لأنه قاصر ومحدود وهو جزء من الحدوث ذاته، فظهر مفهوم الحوادث التي لايمكن تعيين أولها أو بدايتها بالنسبة للكائن الحادث فيحكم عليها بالنسبة إليه أنه لانهائي لنفي قدرته على رصد نهاية أو حدود هذا الوجود كونه صدر من فاعل أزلي خلاق، وليس نفي الوجود الحادث منطقا ً بالنسبة للفاعل الأزلي وتم التعبير عن ذلك بمقولة حوادث لا أول لها أو أن العالم قديم  أو تجاوزًا وجود مادي لانهائي، ومن الخطأ استخدام كلمة لانهاية للحوادث كبدء وجود بالنسبة للفاعل الأزلي.

بعد أن نفينا خطأ استخدام مفهوم اللانهاية عن وجود الحادث ابتداء بالنسبة للفاعل الأزلي، نأتي الآن إلى الجهة المقابلة لاستمرار الحادث دون نهاية لوجوده ؟

بما أن مفهوم اللانهاية هو حكم ووصف، والفاعل أزلي في وجوده وهو حي وقيوم وقدير وعليم وغني حميد وابتدأ خلق الشيء حقيقة بعد أن لم يكن وبقي الفاعل الأزلي على ما هو عليه بأسمائه الحسنى مغاير لفعله (الخلق)، صار من الطبيعي أن يكون هذا الشيء من نوع الممكنات يعني يمكن أن يستمر في الوجود دون تعيين نهايته أو يتم فنائه فهذا يرجع لمشيئة الخالق فهو المدبر لخلقه والمهيمن عليهم، وبما أن الفاعل عليم وحكيم وقدير وله إرادة مطلقة مع نفي مرحلة التصور عنه فيلزم من ذلك أن كل فعله تم بعلمه وصادر عن حكمته وأسماء الفاعل ألأزلي كلها حسنى ومتصفة بالكمال مما يؤكد أن ما يفعله من خلق ويُعطيه صفة الوعي أعطاه صفة السرمدية في الوجود (لانهاية لوجودهم) وإلا نقض أسمائه الحسنى وبالذات اسم العليم الحكيم، وهذا الحكم السرمدي في وجودهم مستمد من قوة الفاعل الأزلي وليس ذاتياً ، وهذا مفهوم أن الله له صفة الإيجاد للخلق والإمداد لهم بالقوة و الطاقة لاستمرارهم، فيصير الكائنات الواعية سرمدية في حياتهم ووجودهم بأمر من الخالق ودعمه لهم المستمر( النفس مثلا)، أما المادة غير الواعية فهي تفنى كصور وتتغير وترجع لأصلها ويتم استخدامها مرة ثانية في خلق صور أخرى وهذا ما يعبر عنه العلماء بأن المادة لا تفنى( كأصل) وإنما تنتقل من صورة إلى أخرى

أما الجزء الثاني من قولهم: والمادة لا تستحدث من لاشيء، فهذا صواب لأن اللاشيء لاينسب له شيء ولو تم نسبة الشيء إلى اللاشيء لصار اللاشيء شيئاً وهو تناقض منطقي ، والوجه الآخر لصواب قولهم أنهم رصدوا الوجود الحادث فعلموا أن كل حادث يتولد من حادث قبله .

والخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا أن الحوادث لانهاية لها في القدم السحيق فهي مستمرة مع الفاعل الأزلي فأعطوها صفة الأزلية مع أنهم انطلقوا من الحوادث ونفوا وجود حادث أول لأن إثبات الحدوث الأول لابد أن يكون مسبوقا بمحدث أزلي فقالوا بأزلية المادة رغم أنها حادثة ومحدودة وتتوالد وتتطور وهذا ينقض مفهوم الأزلية عن المادة لأنه يقتضي الأحدية والصمدية للكائن الأول ( المادة) ونفي التوالد لها أو منها.

(قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد)

 

(1)  نقلًا عن كتاب ” دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ” للدكتور عبد الله الغصن طبع دار ابن الجوزي بالدمام ،ص161-139