دراسة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234]
تتحدث الآية الكريمة عن حكم شرعي يتعلق بالنساء اللواتي يفقدن أزواجهن، حيث تتضمن فترة انتظار محددة قبل أن تستطيع المرأة الزواج مجددًا. يتناول هذا المقال تحليلًا لسايًا وقرآنيًا دقيقًا لكلمتي “يتوفون” و”عشرا” في سياق الآية، مع التركيز على تحديد ما إذا كانت “عشرا” تعني أيامًا أو شهورًا، واستكشاف المانع المنطقي واللساني لفهمها كشهور.
مفهوم “الوفاة” في السياق القرآني واللساني
الجذر اللساني
كلمة “يتوفى” تأتي من الجذر “وفى”، والذي يحمل معنى الإتمام والاكتمال. في اللسان العربي، غالبًا ما تُستخدم كلمة “التوفي” للإشارة إلى إتمام الحياة والخروج من الدنيا، أي الموت.
الاستخدام القرآني
في معظم الآيات القرآنية حين الإطلاق، تُستخدم كلمة “يتوفى” للدلالة على الموت الفعلي، كما في الآيات:
• {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].
• {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
• {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }غافر67
إلا أنه في بعض السياقات بقرينة، يمكن أن تشير الكلمة إلى النوم أو الانقطاع المؤقت، كما في قوله تعالى:
• {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]، حيث تعني “يتوفاكم” هنا النوم.
السياق التشريعي
السياق التشريعي للآية يتحدث عن العدة التي يجب أن تنتظرها المرأة بعد وفاة زوجها. والمقصد من العدة يتعدد من براءة الرحم والحزن على الزوج المتوفى وغير ذلك وقد يجتمع أكثر من مقصد وقد ينفرد أحدها. هذا يتفق مع الفهم العام لكلمة “الوفاة” بمعناها المتعلق بالموت.
تحليل كلمة “عشرا” في سياق الآية
تحديد الوحدات الزمنية
في النصوص القرآنية، عند دمج وحدات زمنية مختلفة، يتم توضيح كل وحدة زمنية بوضوح لتجنب اللبس. مثال على ذلك:
• {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
• {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
• {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]
وعندما يستخدم وحدة زمنية واحدة يذكر العدد كله بكلمة واحدة ولا يجعله مركبا ومضافا
{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ }التوبة2
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }التوبة36
لم يقل (إن عدة الشهور عند اهمْ شهرين وعشرا)
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً }الأحقاف15
لم يقل مثلاً: ( خمسة أشهر وخمس وعشرين)!!!!
وهذا يعني أن عدد الشهور لا يتعدد ولا يتحلل وينبغي ذكر العدد كاملاً، وهذا يعني كلمة أربعة أشهر عدد الأشهر فقط ، وما أتى بعدها هو أيام وليس أشهر لأنه لو كانت أشهر لوجب ضمها إلى الأربعة وتصير كلمة واحدة أربعة عشر شهرا على نمط(اثنا عشر شهرا).
الفهم الطبيعي
في اللسان العربي، عندما يُذكر عدد بعد وحدة زمنية محددة، يُفهم بشكل طبيعي أنه يشير إلى وحدة زمنية مختلفة. فعندما يقول القرآن “أربعة أشهر وعشرا” بدون تكرار كلمة “أشهر”، يُفهم أن “عشرا” تشير إلى وحدة زمنية أخرى، وهي الأيام.
المانع المنطقي لفهم “عشرا” كأشهر
من الناحية التشريعية، فإن فترة العدة من وفاة الزوج تكون معقولة ومنطقية إذا كانت أربعة أشهر وعشرة أيام. هذه الفترة تتيح للمرأة التأكد من عدم وجود حمل وتجاوز فترة الحزن ويتحقق مقاصد المشرع من ذلك . أما إذا كانت الفترة أربعة عشر شهرًا، فستكون طويلة جدًا وغير منطقية بالنسبة لفترة العدة مقارنة بالعديد من التشريعات الأخرى المتعلقة بالعدة في القرآن والتي تكون عادة أقصر بكثير.
الاستنتاج
بناءً على التحليل اللساني والسياق القرآني، فإن كلمة “الوفاة” في الآية {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} تشير إلى الموت الفعلي وليس الغياب المؤقت للزوج. السياق التشريعي والمنطقي يؤكدان أن الحكم يتعلق بوفاة الزوج موتاً، حيث تكون العدة فترة زمنية منطقية لتحقيق الأغراض التشريعية المذكورة.
أما بالنسبة لتحديد معنى “عشرا”، فإن الدليل اللساني والمنطقي يدعم فهم “عشرا” على أنها تعني عشرة أيام وليس عشرة أشهر. هذا الفهم يتسق مع استخدام القرآن للأعداد وللوحدات الزمنية ومع معقولية التشريع المتعلق بفترة العدة بعد وفاة الزوج.
وبناءً على هذا التحليل، فإن التفسير الأكثر منطقية ومنسجم مع النص القرآني هو أن “أربعة أشهر وعشرا” تعني أربعة أشهر وعشرة أيام، وهو ما يحقق الغرض التشريعي بطريقة معقولة ومفهومة.