الرسم القرآني وتطوره: من الخط النبطي إلى المصحف العثماني
نزل القرآن الكريم ذكرًا صوتيًا على قلب النبي محمد ﷺ، وتلاه شفهيًا على الصحابة الذين حفظوه في صدورهم وتناقلوه شفهيًا. لم ينزل القرآن مكتوبًا في قرطاس، ولم يكن لدى الصحابة في بداية الإسلام أي رسم خاص للنص القرآني. هذا المقال يستعرض ويبين أن الرسم والخط للنص القرآني كان اجتهادًا بشريًا، مدعومًا بأدلة قرآنية ومنطقية وآراء كبار العلماء عبر العصور، بالإضافة إلى تطور الخط العربي من الخط النبطي إلى الخط المستخدم في المصحف العثماني.
نزول القرآن الكريم وتلاوته في زمن النبي
أدلة قرآنية على النزول الشفهي
الآيات الكريمة تؤكد أن النبي محمد ﷺ لم يكن يكتب أو يقرأ، وأن القرآن نزل عليه مشافهةً، حيث يقول الله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون) (العنكبوت: 48). وهذا يشير بوضوح إلى أن القرآن كان يُتلى شفهيًا ولم ينزل مكتوبًا.
كتابة الوحي في زمن النبي
الصحابة كانوا يكتبون الوحي على مواد متنوعة مثل الرقاع والألواح، ولكن هذا لم يكن بأمر توقيفي من النبي محمد ﷺ حول كيفية رسم الكلمات. جمع المصحف بشكل كامل تم في عهد الخلفاء الراشدين بعد وفاة النبي ﷺ، حيث كان الهدف من ذلك ضبط النص القرآني وتوحيد الأمة الإسلامية على قراءة واحدة.
استخدام الخط النبطي في عهد النبي والصحابة
الخصائص والاستخدامات
الخط النبطي كان يتميز بخصائص معينة، منها الأحرف المتصلة والأشكال البسيطة. استخدم هذا الخط بشكل رئيسي في النقوش التجارية والتوثيق، وكان يعتبر الخط السائد في شبه الجزيرة العربية قبل تطور الخط الكوفي.
الأمثلة والتوثيق
النقوش النبطية الموجودة على الصخور في شمال الجزيرة العربية، مثل البتراء ومدائن صالح، تثبت استخدام هذا الخط بشكل واسع قبل الإسلام. مع انتشار الإسلام، تطور الخط النبطي ليشكل الأساس للخط الكوفي الذي استخدم لاحقًا في كتابة المصاحف.
جمع المصحف في عهد أبي بكر الصديق
بعد وفاة النبي محمد ﷺ، شعر الصحابة بضرورة جمع القرآن مكتوبًا للحفاظ عليه. كلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذه المهمة. لم يعتمد زيد على أي نسخة مكتوبة بل جمع القرآن من الرقاع والصدور.
المصحف العثماني
عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بنسخ مصحف أبي بكر وتوزيعه في الأمصار الإسلامية لتوحيد الرسم والتلاوة. قال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: “إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم”. هكذا تم نسخ المصحف العثماني وفق الطريقة التي ارتضوها في زمانهم.
تطور الخط القرآني وتنقيطه
الخط العربي الذي كُتب به القرآن الكريم في البداية كان بلا نقاط أو حركات. في زمن عبد الملك بن مروان، أمر بتنقيط المصاحف وتشكيلها لتسهيل قراءتها وفهمها. ساهم أبو الأسود الدؤلي في تطوير الكتابة العربية بوضع نظام التنقيط والحركات لتصحيح الأخطاء وتسهيل القراءة.
دور الخليل بن أحمد الفراهيدي في تطوير اللسان العربي
الخليل بن أحمد الفراهيدي وضع نظامًا لتمثيل الهمزة بشكل واضح في الكتابة، كما أسس علم العروض ووضع أول معجم عربي شامل، معجم “العين”.
موقف العلماء من رسم المصحف وكونه اصطلاحياً وليس وحياً
علماء السنة، الشيعة، المعتزلة، والإباضية جميعهم أشاروا إلى أن رسم المصحف كان اجتهاديًا وليس وحيًا. الإمام مالك بن أنس، الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي أكدوا أن رسم المصحف كان اجتهادًا من الصحابة لأسباب معينة في ذلك الوقت.
بداية القول بأن الرسم القرآني وحي
القول بأن رسم كلمات القرآن الكريم هو وحي من الله ولم يكن اجتهادًا بشريًا ظهر في فترة متأخرة نسبيًا بعد عصر الصحابة والتابعين. أحد أبرز من تبنى هذا الرأي هو ابن الجزري في القرن التاسع الهجري، حيث قال: “أن رسم المصحف توقيفي ووحي من الله عز وجل، وأنه لا يجوز تغييره أو مخالفته”.
رسالات الدكتوراه والماجستير التي أثبتت أن الرسم اصطلاحي
العديد من الدراسات الأكاديمية الحديثة أثبتت أن الرسم القرآني كان اجتهاديًا وليس توقيفيًا، مثل أطروحة الدكتوراه بعنوان “تاريخ كتابة القرآن الكريم وتطور رسمه عبر العصور” للدكتور محمد السيد صالح، ورسالة الماجستير بعنوان “الرسم القرآني بين التوقيف والاجتهاد” للباحث أحمد عبد الله الحربي.
الخلاصة
القرآن الكريم نزل ذكرًا صوتيًا على قلب النبي محمد ﷺ ولم ينزل مكتوبًا في قرطاس. جمع المصحف في عهد أبي بكر وعثمان كان اجتهادًا بشريًا لضبط النص وتوحيد التلاوة. تطور الخط العربي وتنقيطه كان اجتهادًا من الصحابة والعلماء لتيسير القراءة والتلاوة. الأدلة القرآنية وآراء كبار العلماء تؤكد أن الرسم كان اصطلاحيًا وليس وحيًا. الرأي بأن الرسم وحي من الله ظهر في فترة متأخرة نسبيًا وتبناه ابن الجزري. العديد من الدراسات الأكاديمية الحديثة أثبتت أن الرسم القرآني كان اجتهاديًا وليس توقيفيًا. تطور الخط العربي من النبطي إلى الكوفي يعكس رحلة طويلة من التحسين والاجتهاد لضمان الحفاظ على النص القرآني وسهولة تلاوته.