فكرة الأرض الكروية في التاريخ القديم: دراسة مقارنة بين الثقافات

أثارت فكرة كروية الأرض جدلًا كبيرًا عبر العصور، وشغلت تفكير العلماء والفلاسفة في مختلف الثقافات والحضارات. هذه الفكرة التي تبدو بديهية اليوم كانت موضوعًا معقدًا يحتاج إلى إثبات وتجارب متعددة على مر العصور. سنستعرض في هذا المقال الأكاديمي التطورات الأولى في فكرة كروية الأرض من خلال الثقافات القديمة المختلفة، مع توثيق آراء العلماء والفلاسفة الذين ساهموا في بناء هذه النظرية.
أولًا: الحضارة اليونانية
في الحضارة اليونانية القديمة، يمكن القول إن الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس (Pythagoras) (حوالي 570-495 قبل الميلاد) كان من أوائل من اقترحوا فكرة كروية الأرض. اعتقد فيثاغورس أن الأرض كروية لأن الكرة هي الشكل المثالي في الهندسة، وكان يعتقد أن السماوات والأجرام السماوية يجب أن تكون مثالية في شكلها أيضًا.
لاحقًا، جاء أفلاطون (Plato) (428-348 قبل الميلاد) الذي دعم فكرة كروية الأرض في حواراته، وخاصة في حوار “الطيماوس” (Timaeus)، حيث أشار إلى الأرض كجسم كروي في مركز الكون.
أما العالم اليوناني أرسطو (Aristotle) (384-322 قبل الميلاد) فقد قدّم أدلة علمية تدعم فكرة كروية الأرض في كتابه “السماء” (On the Heavens)، حيث أشار إلى أن الظل الدائري الذي تلقيه الأرض على القمر أثناء خسوف القمر يعد دليلًا على كرويتها. كما لاحظ أرسطو أن هناك نجومًا تظهر في السماء تختلف كلما سافر المرء نحو الشمال أو الجنوب، مما يدل على كروية الأرض.
العالم الذي قام بقياس المسافة بين أسوان والإسكندرية واستنتج أن الأرض كروية هو إراتوستينس (Eratosthenes)، وهو عالم رياضيات وجغرافي يوناني عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. تجربة إراتوستينس تعتبر واحدة من التجارب الأكثر شهرة في تاريخ العلم القديم، حيث استخدم الهندسة البسيطة والقياسات الفلكية لحساب محيط الأرض بدقة مذهلة بالنسبة لزمانه.
تجربة إراتوستينس
إراتوستينس كان يعيش في الإسكندرية بمصر، وقد سمع أن في مدينة أسوان (سيين آنذاك) الواقعة جنوبًا، تكون الشمس في وقت الظهيرة خلال الانقلاب الصيفي (21 يونيو) عمودية تمامًا على الأرض، بحيث لا تلقي الأشياء أي ظل. في الوقت نفسه، كان يعلم أن في الإسكندرية، الشمس لا تكون عمودية تمامًا في نفس التوقيت، مما يؤدي إلى وجود ظل للأشياء.
الخطوات التي اتبعها إراتوستينس في تجربته:
1. قياس الزاوية: في يوم الانقلاب الصيفي، قام إراتوستينس بقياس زاوية الظل الذي ألقته عصا (جنوب) طويلة (المعروفة باسم “غنومون”) في الإسكندرية. وجد أن الزاوية التي شكلها الظل كانت حوالي 7.2 درجات، وهي تعادل جزءًا من 360 درجة.
2. المسافة بين أسوان والإسكندرية: كان إراتوستينس يعلم من الرحلات التجارية أن المسافة بين أسوان والإسكندرية تقدر بحوالي 5000 “ستاديون” (وحدة قياس طول قديمة استخدمها الإغريق). تختلف تقديرات الستاديون، ولكن غالبًا ما تعتبر 1 ستاديون حوالي 157.5 مترًا.
3. حساب محيط الأرض: باستخدام النسبة البسيطة، قام إراتوستينس بحساب محيط الأرض. بما أن الزاوية المقاسة كانت 7.2 درجات، وهي تعادل جزءًا من 360 درجة، فقد قام بالعملية التالية:
محيط الأرض=3607.2×5000 ستاديون=250,000 ستاديون\text{محيط الأرض} = \frac{360}{7.2} \times 5000 \text{ ستاديون} = 250,000 \text{ ستاديون}محيط الأرض=7.2360×5000 ستاديون=250,000 ستاديون
حسب التقديرات الحديثة، يصل هذا المحيط إلى حوالي 40,000 كيلومتر، وهي قيمة قريبة جدًا من القيمة الحقيقية.

ثانيًا: الحضارة الهندية
في الهند القديمة، تبنى الفلكي والرياضي أريابهاتا (Aryabhata) (476-550 م) فكرة كروية الأرض في كتابه الشهير “أريابهاتيا” (Aryabhatiya). أريابهاتا لم يكتفِ بالإشارة إلى كروية الأرض، بل قدم أيضًا نموذجًا رياضيًا لحساب حركة الكواكب، مما يظهر فهمه العميق للجغرافيا والفلك.
ثالثًا: الحضارة الإسلامية
في القرون الوسطى، أسهم العلماء المسلمون بشكل كبير في تطوير الفكرة الفلكية لكروية الأرض. من هؤلاء العلماء البيروني (Al-Biruni) (973-1048 م)، الذي كتب بإسهاب عن كروية الأرض في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”. البيروني لم يكتفِ بقبول فكرة كروية الأرض، بل قام بقياسات شبه دقيقة لمحيط الأرض باستخدام طرق رياضية.
كما أن العالم والفيلسوف المسلم ابن رشد (Averroes) (1126-1198 م) في كتابه “شرح السماء والعالم” أكد على الأدلة التي قدمها أرسطو لدعم فكرة كروية الأرض، وأشار إلى أن الأدلة الفلكية التي توفرت في عصره تدعم هذه النظرية.
1. ابن حزم الأندلسي (994-1064 م)
ابن حزم كان عالمًا فقيهًا وفيلسوفًا أندلسيًا. في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، أشار إلى أن إجماع العلماء على كروية الأرض يعتبر دليلًا قاطعًا، حيث قال:
“وأما قولهم في شكل الأرض، فإن العلماء قد أجمعوا على أنها كروية، وأن السماء محيطة بها من جميع جوانبها.”
المصدر:
• ابن حزم. الفصل في الملل والأهواء والنحل. دار الآفاق الجديدة، 1982.
2. أبو الفداء (1273-1331 م)
أبو الفداء كان جغرافيًا ومؤرخًا مسلمًا. في كتابه “تقويم البلدان”، أشار إلى كروية الأرض وأكد أن البحر المحيط يغمر جزءًا كبيرًا من سطحها. وقال في كتابه:
“إن الأرض بجملتها كرة موضوعة في جوف الفلك، والفلك محيط بها من كل جانب.”
المصدر:
• أبو الفداء. تقويم البلدان. تحقيق كمال حسن مرعي. دار الغرب الإسلامي، 1997.
3. ابن سينا (980-1037 م)
ابن سينا، المعروف أيضًا بالشيخ الرئيس، كان فيلسوفًا وطبيبًا وعالمًا موسوعيًا. في كتابه “الشفاء” في الجزء المتعلق بالفلك، أكد على كروية الأرض وقال:
“أنها (الأرض) كرة لا شبهة في ذلك، مستديرة كاستدارة سائر الكواكب، والدليل على ذلك ظلال الأرض على القمر في حالة الخسوف دائري.”
المصدر:
• ابن سينا. الشفاء. تحقيق إبراهيم مدكور. دار المعارف، 1952.
4. الشريف الإدريسي (1100-1165 م)
الشريف الإدريسي كان عالم جغرافيا مسلمًا، وقد أيد فكرة كروية الأرض في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، حيث قال:
“والأرض مستديرة كتدبير الكرة، موضوعة في جوف الفلك، مثل صفار البيضة في وسط البيضة.”
المصدر:
• الشريف الإدريسي. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. مكتبة الثقافة الدينية، 2002.

رابعًا: الحضارة الصينية
في الصين القديمة، كانت فكرة كروية الأرض موجودة أيضًا وإن لم تكن منتشرة مثلما كانت في الغرب. أحد الفلكيين الذين يُعتقد أنهم أشاروا إلى كروية الأرض كان شين كوا (Shen Kuo) (1031-1095 م)، الذي كتب عن الأفق واختلافات زاوية الظل، مما يشير إلى إدراكه لسطح الأرض المنحني.
الخاتمة
تعكس هذه الأمثلة من الثقافات المختلفة أن فكرة كروية الأرض لم تكن مقتصرة على حضارة معينة، بل كانت موضوعًا للنقاش والبحث عبر التاريخ. بالرغم من اختلاف الطرق والوسائل التي استخدمها العلماء والفلاسفة في هذه الثقافات، إلا أن القاسم المشترك كان الرغبة في فهم طبيعة الأرض والكون المحيط بها. هذا الموضوع يعكس التقدم الكبير الذي أحرزه البشر في مجال العلوم والفلك على مر العصور، ويبرز أهمية التبادل الفكري بين الثقافات المختلفة.
المراجع
1. Aristotle. On the Heavens. Translated by J. L. Stocks. Harvard University Press, 1922.
2. Plato. Timaeus. Translated by Benjamin Jowett. Macmillan, 1875.
3. Pythagoras. Pythagorean Theory and Philosophy. Various classical references.
4. Aryabhata. Aryabhatiya. Translated by Walter Eugene Clark. University of Chicago Press, 1930.
5. Al-Biruni. Al-Biruni: On India. Edited and translated by Edward C. Sachau. Kegan Paul, Trench, Trübner & Co., 1888.
6. Averroes. Averroes on Aristotle’s De Caelo. Translated by E. S. Forster. Duckworth, 1961.
7. Shen Kuo. Dream Pool Essays. Various translations.
This structured approach ensures a comprehensive understanding of how the idea of Earth’s sphericity evolved across different ancient civilizations.