نقد فكرة الاستقراء الناقص في مسألة السببية
مفهوم السببية يُعتبر حجر الزاوية في الفلسفة والعلوم الطبيعية، حيث أن كل حدث له سبب أو أكثر يؤدي إلى وقوعه. هذا المفهوم ليس مجرد نظرية علمية بل هو قاعدة وجودية شاملة تشمل كل شيء وكل حدث في عالمنا المرصود وأي عوالم أخرى قد توجد. ومع ذلك، ظهرت بعض الأفكار التي تنتقد هذا المفهوم من منظور الاستقراء الناقص، مدعيةً أن السببية قد تكون فعالة فقط ضمن نطاق عالمنا المشاهد، وأن هناك احتمالاً لوجود عوالم أو ظواهر لا تخضع لمفهوم السببية. في هذا المقال، سنناقش هذه الفكرة ونفندها بشكل علمي ومنطقي، مع التركيز على ضرورة اعتبار السببية كمفهوم وجودي شامل وثابت.
مفهوم السببية كضرورة معرفية ووجودية
السببية ليست مجرد مفهوم نظري مستنتج من مراقبة الطبيعة؛ بل هي شرط أساسي لكل معرفة علمية أو فلسفية، وهي قاعدة وجودية لا غنى عنها. ودون إثبات السببية، لن نتمكن من تفسير أي ظاهرة أو التنبؤ بأحداث مستقبلية. إن أي ظاهرة تُرى في الطبيعة تعتمد على الفهم المسبق للسببية وتنطلق منه، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من الطريقة التي ندرك بها العالم. على سبيل المثال، إذا شاهدنا جسمًا يسقط، فإننا نربط ذلك بتأثير الجاذبية؛ هذا الربط بين السبب والنتيجة هو أساس فهمنا للطبيعة.
الاستقراء والتعميم المنطقي للسببية
الاستقراء هو عملية عقلية تعتمد على افتراض أن الطبيعة تعمل وفقًا لقوانين ثابتة وشاملة، ومن بينها قانون السببية. هذا الاستقراء ليس ناقصًا ولا قابلًا للشك طالما أن هناك حادثة أو ظاهرة، فهي بالضرورة تخضع لقانون السببية. السببية ليست مقيدة فقط بعالمنا المرصود؛ بل هي قاعدة وجودية شاملة تطبق على أي شيء حادث، سواء كان في نطاق الرصد البشري أو خارجه.
يتمثل أحد أوجه القوة في الاستقراء في قدرته على تعميم القوانين المستنبطة من الظواهر المشاهدة لتشمل ظواهر أخرى لم نرصدها بعد. على الرغم من أن هذا قد يبدو محفوفًا بالمخاطر، إلا أن الاستقراء يعتمد على أن الطبيعة تعمل وفقًا لقوانين ثابتة وشاملة. إذا كان هناك مجال أو ظاهرة لا تتبع قانون السببية، فإن ذلك سيقوض أساس العلم نفسه، لأنه سيفتح الباب للفوضى وعدم القدرة على التنبؤ.
منطقية السببية كقاعدة وجودية شاملة
أي محاولة لنفي السببية تفترض مسبقًا وجودها؛ لأنها جزء من بنية العقل البشري والفهم العلمي. السببية هي التي تتيح لنا إمكانية الفهم والتحليل والتفسير، مما يعني أن أي نقد لها يجب أن يُبنى على أسس سببية، وهذا تناقض في ذاته. لذا، لا يمكننا تصور وجود أي شيء أو ظاهرة خارج نطاق السببية، لأنها هي القاعدة التي يقوم عليها وجود أي شيء.
حتى إذا افترضنا وجود عوالم أو ظواهر لا تخضع للسببية كما نعرفها، فإن ذلك لن ينفي وجود السببية خارج رصدنا للعوالم . السببية في عالمنا ليست مجرد فرضية قابلة للدحض، بل هي جزء من بنية العقل البشري نفسه. لا يمكننا فهم أو تفسير العالم بدونها، مما يعني أن أي محاولة لنقد السببية تستند إلى افتراض مسبق بوجودها. السببية تظل القاعدة العامة والمبدأ الأساسي في تفسير كل الظواهر، المرصودة منها وغير المرصودة، وهذا يقين ولا يزول إلا بيقين مثله ، ومن المستحيل نقض اليقين لأنه ثبت بالبرهان.
الخلاصة
السببية ليست مجرد مفهوم فلسفي أو علمي؛ بل هي قاعدة وجودية ثابتة لا تقبل الشك. كل شيء حادث أو موجود لا يمكن أن يكون إلا بموجب سبب، سواء كان هذا الشيء ضمن نطاق ملاحظتنا أو خارجه. إن محاولة تقويض هذا المفهوم بناءً على افتراضات غير مرصودة هو مغالطة منطقية، لأن السببية تظل هي المبدأ الأساسي الذي يضمن فهمنا وتفسيرنا للعالم. ومن ثم، فإن السببية هي مفهوم شامل وثابت ينطبق على كل شيء، سواء كان مرصودًا أو غير مرصود، طالما أنه شيء وحادث. ومفتقر في وجوده أو حركته إلى غيره.