الرد على شبهة استحالة تواصل الخالق مع المخلوق
تنتشر في بعض الأوساط الفكرية المعاصرة شبهة تقول إن الخالق، بصفته أعظم وأعلى شأنا من كل المخلوقات، لا يمكن أن يتواصل مع الإنسان الذي يعتبرونه مجرد كائن صغير مثل “الغبرة” في هذا الكون الواسع. بناءً على هذا التصور، ينفي الربوبيون وجود الأديان والنبيين، معتبرين أن التواصل بين الله والإنسان مستحيل منطقياً. في هذه المقالة، سنتناول هذا الاعتراض من منظور منطقي، ونبين خطأه، ونثبت إمكانية تواصل الخالق مع المخلوق، بل نؤكد أن هذا التواصل ليس مرتبطًا بالحجم بل بالوعي، وأنه حق للمخلوق وواجب على الخالق وفق مقتضى اسم الله “العليم الحكيم”.
1. الخالق والوعي: مقاربة عقلية
إذا تأملنا في مفهوم “الوعي”، سنجد أنه هو المعيار الحقيقي للتفاعل والتواصل، وليس الحجم المادي. الإنسان، رغم صغر حجمه مقارنةً بالكون، يمتلك وعياً يمكنه من التفكير والتحليل والتساؤل عن وجوده ووجود الخالق. ومن هذا المنطلق، يصير التواصل بين الخالق والمخلوق ليس مسألة حجم بل مسألة قدرة وإرادة ووعي.
إن القول بأن الخالق أعظم شأناً من أن يتواصل مع الإنسان يشبه القول بأن العالِم في مختبره أعظم من أن يتواصل مع الخلايا تحت مجهره. قد تكون الخلايا صغيرة جداً، لكن وعي العالِم ودوره يقتضي أن يتفاعل مع تلك الخلايا، سواءً لفهمها أو لإصلاح أي خلل فيها. وهكذا، يكون التواصل بين الخالق والمخلوق ضرورياً لتحقيق الغاية من خلق الإنسان: الفهم، والإرشاد، وإصلاح المسار عند الانحراف.
2. التواصل كواجب على الخالق: اسم “العليم الحكيم”
عندما نفكر في أسماء الله الحسنى، نجد أن أحد هذه الأسماء هو “العليم الحكيم”. يدل اسم “العليم” على أن الله يعلم كل شيء عن مخلوقاته، بما في ذلك الإنسان. ويعني اسم “الحكيم” أن الله يضع كل شيء في موضعه الصحيح، ويقوم بكل فعل بحكمة.
إذا كان الله يعلم كل شيء عن الإنسان، وإذا كان حكيماً في أفعاله، فإن التواصل مع الإنسان يصير ضرورة. كيف يمكن لله أن يترك مخلوقه الصغير، الذي منح له العقل والوعي، دون إرشاد أو توجيه؟ عدم التواصل مع الإنسان يعني تركه يتخبط في ظلمات الجهل، وهذا ينافي الحكمة الإلهية.
3. حق المخلوق في التواصل مع خالقه
الإنسان، بصفته كائناً واعياً، يبحث دائماً عن الحقيقة. هذا البحث الدائم عن الحقيقة والغاية يشير إلى أن الإنسان يمتلك حقاً فطرياً في معرفة خالقه وفي التواصل معه. وإذا كان الله قد خلق الإنسان بوعي وقدرة على التساؤل، فإن واجب الخالق يتطلب أن يوفر للإنسان إجابات عن تساؤلاته، وهذا هو جوهر الدين.
التواصل بين الخالق والمخلوق لا يقتصر فقط على تلبية حاجة الإنسان، بل هو جزء من نظام الحكمة الإلهية. فكما أن العالم الطبيعي منظم وفق قوانين محكمة، فإن التواصل الإلهي مع الإنسان هو جزء من النظام الأخلاقي والروحي الذي أوجده الله ليهدي الإنسان إلى الطريق الصحيح.
4. مقارنة بين التواصل الإلهي والأنظمة الطبيعية
كما أن الكون يعمل وفق قوانين طبيعية لا تتعطل، كذلك تواصل الله مع مخلوقاته هو جزء من النظام الكوني. إن قوانين الطبيعة لا تستبعد الكائنات الصغيرة مثل الذرات أو الإلكترونات، رغم أنها صغيرة جداً. بل على العكس، القوانين الطبيعية تحكم حتى أصغر الجزئيات.
وبالمثل، التواصل الإلهي يشمل كل المخلوقات، بصرف النظر عن حجمها. إن الله الذي خلق الذرة والمجرة هو نفسه الذي يتواصل مع الإنسان، بصرف النظر عن حجمه، لأن المسألة تتعلق بالحكمة والعلم، وليس بالحجم.
5. خاتمة
في الختام، يظهر أن اعتراض الربوبيين على التواصل بين الخالق والمخلوق يعتمد على فهم محدود وغير دقيق لطبيعة الخالق والمخلوق. إن الله بصفته العليم الحكيم يتواصل مع الإنسان لأنه يعلم حاجته إلى الهداية والتوجيه، وهذا التواصل ليس مسألة حجم بل مسألة وعي وعلم. إن رفض فكرة التواصل الإلهي مع الإنسان يتناقض مع صفات الله من علم وحكمة، ويتجاهل طبيعة الإنسان ككائن واعٍ يبحث عن الحق.
التواصل بين الخالق والمخلوق ليس فقط ممكناً، بل هو ضروري وحق للمخلوق وواجب على الخالق كمقتضى لتفعيل أسمائه الحسنى.