عندما تفلسف أبو بكر الرازي ضل
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وُلد في الري، إيران، في القرن الثالث الهجري، ويعد من أبرز العلماء في تاريخ الحضارة الإسلامية. برع الرازي في مجال الطب والفلسفة، وقدم إسهامات هائلة في الطب، حيث يُعد من أوائل من وضعوا أسس الطب الحديث. ألف الرازي العديد من الكتب الطبية التي كانت مرجعًا لقرون طويلة، منها “الحاوي” و”المنصوري”، والتي عالج فيها موضوعات طبية مختلفة بشمولية وعمق.
دخل الرازي إلى جانب الطب مجال الفلسفة، حيث حاول تطبيق منهجه العلمي والعقلاني على مفاهيم الدين والنبوة. إلا أن دخوله هذا المجال كان بداية لانحراف فكري، حيث ضل طريقه في محاولة فهم الدين من منظور فلسفي، فوقع في أخطاء منطقية لا تليق بمستواه العلمي والفلسفي، خاصة أنه كان يدعو إلى العقلانية والحرية والتفكير المنطقي والعلمي. ومع ذلك، كانت تناوله لهذه الأفكار سطحيًا جدًا وغير متعمق، مما أدى إلى استنتاجات خاطئة ومخالفة للحق.، بل وتدعو إلى الاستغراب أن تصدر منه.
أهم كتبه:
من أشهر كتب الرازي في الطب “الحاوي في الطب” و”الطب الروحاني”، حيث قدم فيهما رؤية متكاملة للعلاج الجسدي والنفسي. ولكن الرازي كتب أيضًا في الفلسفة والدين، ومن أبرز كتبه في هذا المجال “الطب الروحاني” و”مخاريق الأنبياء” و”الشكوك حول الدين”. في هذه الكتب، انتقد الرازي الأديان والنبوة بشكل حاد، معتمدًا على العقل والمنطق كمعايير للحق حسب ما زعم.
نقد فكر الرازي:
أثناء تناوله لموضوع الدين والنبوة، وقع الرازي في أخطاء منطقية وفلسفية. ورغم دعوته للعقلانية والتفكير الحر، إلا أن نقده للأديان والنبوءات كان سطحيًا وغير مدعوم بتحليل عميق أو استدلال قوي وفقد المنطق. ومن هنا، نؤكد أننا لا نحكم على الأشخاص بالكفر بناءً على آرائهم الفلسفية، وإنما نناقش الأفكار ونحكم عليها بالكفر إذا كانت مخالفة للحق، مع تقديرنا لما قدمه الرازي من إسهامات علمية وخاصة في مجال الطب.، فالنقاش للأفكار وليس حكماً على الأشخاص.
نقد أفكار الرازي حول النبوة والدين من خلال النقاط التي أثارها وانطلق منها:
1. اعتبار النبوة وسيلة للتفريق بين البشر:
o نقد: النبوة لا تهدف إلى التفريق بين البشر، بل إلى توحيدهم على أساس الحق والإيمان بالله. الأنبياء جاؤوا برسالات تهدف إلى تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وليس لتفضيل أحد على آخر. الادعاء بأن النبوة تفرق بين الناس هو تجاهل للرسائل الأخلاقية والاجتماعية التي حملها الأنبياء، والاصطفاء لشخص لتبليغ الرسالة أو القيام بمهمة معينة وليس رفعه فوق البشر، فهذا شيء طبيعي فالملوك مثلا يختارون رسولا يحمل رسالتهم إلى بعضهم فهل هذا الاختيار للرسول هو إضفاء عليه صفات غير بشرية؟ مع العلم أن الرسل والأنبياء لم يقدموا أنفسهم للناس أنهم غير البشر أو لهم امتيازات خاصة أو دعوا الناس لعبادتهم وتقديسهم، وغنما دعوهم إلى الحق والعدل والمساواة بين الناس ونفي الظلم والعدوان، والنص القرءاني واضح في هذه القضية : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ }فصلت6، لذلك هذه النقطة باطلة جملة وتفصيلًا واستغرب كيف يعرضها رجل فيلسوف بمستوى أبو بكر الرازي!
2. عدم الحاجة إلى النبوة في ظل وجود العقل:
3. نقد: العقل أداة هامة في الوصول إلى المعرفة، ولكن يبدو أبو بكر لا يعرف ما هو العقل ؟ العقل اصطلاح يدل على القوة الواعية و الإدراكية عند الإنسان وليس مصدًرا علميًا ولا معلوماتيًا ولا دينياً، فهو أشبه بميزان بحاجة لواقع ومعلومات حتى يستخدمها في عملية التعقل والتفكير وفق منطق محكم يعتمد على الواقع، وليس هو مكتفيًا بذاته لفهم الغايات الإلهية والأخلاقية العميقة التي تنظم الحياة البشرية. الأنبياء دعاة إرشاد وتنوير وتعليم يخاطبون العقل من خلال المنطق والبراهين ، وليس إلغاء العقل والوعي والتفكير، وهذا واضح بشكل صريح في النص الديني.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ }الأنبياء24
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20
4. الطبيعة البشرية للأنبياء:
o نقد: بشرية النبيين أمر ثابت في الواقع والنص الديني فالدين لم يجعلهم فوق مستوى البشر ، وهذه الطبيعة البشرية مشتركة مع كل البشر فلذلك النبيين يمرضون ويأكلون وينامون و يخطؤون وهم غير معصومين في فهمهم أو حكمهم على شيء ، والعصمة تتعلق في مقام الرسالة وتبليغهم الوحي وليست متعلقة بشخصهم.
العصمة في تبليغ الرسالة هي جزء من الحماية الإلهية لضمان وصول الحق إلى الناس دون تحريف أو تزييف. الأخطاء البشرية لا تلغي دور النبوة أو قيمته، وعلاقة الناس مع الرسالة وليس مع شخص النبي.
5. التناقض مع العدالة الإلهية:
o نقد: اختيار الله للأنبياء ليس تمييزًا غير عادل، بل هو جزء من حكمته المطلقة. النبوة هي تكليف ثقيل يتطلب مؤهلات خاصة، والله يختار من يشاء من عباده لتحقيق هذه الغاية. العدالة الإلهية تتمثل في توفير الهداية لكل البشر من خلال الرسالات السماوية.
6. اختلاف الرسالات وتناقضها:
o نقد: الرسالات الإلهية لا تتناقض، بل هي تكمل بعضها البعض عبر الزمن وفقًا لحاجات البشر في كل عصر. ما يظهر كتناقض هو في الواقع تطوير للرسالة وفقًا لتطور المجتمعات الإنسانية، والرسالة الأخيرة جاءت لتجميع هذه الرسالات في كتاب واحد وإكمال الدين.
7. الاعتماد على التجارب الشخصية:
o نقد: النبوة ليست تجربة شخصية بحتة، بل هي اصطفاء من قبل الله لرجل مؤهل ليقوم بمقام النبوة و مدعوم بالآيات والبراهين التي تؤكد صحة الرسالة. الوحي ليس تجربة نفسية، بل هو حقيقة موضوعية لها آثار ملموسة على المجتمعات والأفراد.
8. رفض مفهوم المعجزات:
o نقد: كلمة معجزة بحد ذاتها خطأ شائع فما أتى لدعم صدق النبي بنبوته اسمه آية وهي علامة وبرهان على صدقه في ادعائه وليس لإعجاز أحد، وما نزل على النبيين هو لهداية الناس إلى الحق وفق البرهان وليس لإعجازهم.
o فالآيات هذه ليست مجرد أحداث، بل هي براهين إلهية تُقدم للناس لإثبات صدق الأنبياء. رفض الآيات بناءً على أنها غير قابلة للتكرار هو تجاهل لطبيعتها الفريدة كأدلة على قدرة الله وتأييده للأنبياء.
9. التناقضات الداخلية في النصوص الدينية:
o نقد: التناقضات التي أشار إليها الرازي غالبًا ما تكون نتيجة سوء فهم أو تفسير خاطئ للنصوص من قبله !. الفهم الصحيح للنصوص الدينية يتطلب العلم اللساني والمنطقي والمنهج القرءاني العميق، وليس التلاوة السطحية والتعامل مع النص بشكل جزئي بمعزل عن منظومته.
10. احتواء النصوص على مفاهيم غير عقلانية:
o نقد: ما يعتبره الرازي غير عقلاني هو في الواقع حقائق إيمانية تتجاوز الفهم البشري المحدود. العقلانية لا تعني إنكار ما لا يمكن تفسيره علميًا، بل تعني البحث عن الحق والتسليم به حتى لو كان يتجاوز قدرات العقل البشري.
11. استخدام النصوص لتبرير العنف:
• نقد: النصوص الدينية التي استُخدمت لتبرير العنف غالبًا ما أُسيء فهمها أو تحريفها أو فهمها بمعزل عن ظروفها والمنظومة التي تنتمي إليها ، والإسلام، يدعو إلى السلم والعدل ولا يبرر العنف إلا في حالات الدفاع عن النفس أو الحق.
وهذا واضح وصريح في النص القرءاني
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13
الخلاصة:
في نهاية المطاف، يمكن القول إن أبو بكر الرازي كان عالمًا بارعًا في الطب، ومفكرًا عقلانيًا في بعض الجوانب، لكنه عندما حاول تطبيق فلسفته على الدين والنبوة، لم يكن ناجحًا بشكل كامل. لم تسعفه فلسفته في تقديم نقد عميق أو منطقي للدين، ووقع في أخطاء منطقية كان من المفترض أن يتجنبها لو اعتمد على دراسة أعمق وأكثر تأنّيًا. ومع ذلك، يظل الرازي شخصية علمية وفكرية مهمة، وترك إرثًا كبيرًا في مجاله، على الرغم من نقاط الضعف في بعض جوانب فكره الفلسفي.