تدبر”الرحمن على العرش استوى”
مدخل إيماني ومنطقي:
كل نص في القرآن الكريم ينسب فعلاً لله سبحانه وتعالى يجب أن يُفهم بمعزل عن ذات الله الأزلية. الفعل الإلهي مرتبط بالحوادث والزمن، أي أنه حادث أو يقع في زمن معين، بينما نفس الله أزلي أحد صمد، منزه عن التغير والحركة والتطور. وجود الله مختلف تماماً عن وجود فعله؛ الله لا يتحرك، ولا يتغير، ولا يتطور لأنه أزلي وكامل في ذاته. الفعل الإلهي حادث من حيث علاقته بالحوادث، لكن الذات الإلهية ثابتة ومتعالية على هذه الحوادث.
الاستواء على العرش مرتبط بالخلق:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }يونس3
{اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد2
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }الفرقان59
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }السجدة4
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }الحديد4
{تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }طه4-6
تعريف “الرحمن” وتفكيك المصطلح:
لفظ “الرحمن” جاء على وزن “فعلان”، وهذا الوزن في اللغة العربية غالباً ما يشير إلى حالة متغيرة متصلة بالفعل الثنائي، مثل لفظ “جوعان” أو “مرضان”، الذي يعكس حالتين متضادتين تتعلقان بالصحة والمرض أو الشبع والجوع. إذن، “الرحمن” ليس مجرد صفة تشير إلى الرحمة كما يتصور البعض؛ بل هو مصطلح يعبر عن ديناميكية أعمق تتعلق بتقلبات وتغيرات في الفعل الخلقي. على سبيل المثال، “الرحمن” قد يتضمن فكرة الولادة والإنشاء من خلال عملية زوجية متقابلة مثل الصحة والمرض، الخير والشر، أو الفناء والبقاء.
ولو نظرنا إلى كلمة “الرحمن” من جذرها “رحم”، فهي قد لا ترتبط بشكل مباشر بفكرة “الرحيم” التي تعني الرحمة بالمعنى التقليدي. السياق القرآني يؤكد هذا الفهم عندما يذكر اسم “الرحمن” في آيات مرتبطة بالعذاب والقوة، مثل قوله تعالى:
{ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الإسراء: 110). {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }مريم45
هنا، يأتي الاسم “الرحمن” في سياق عام يتجاوز مجرد الرحمة التقليدية ليشير إلى قوة وإحكام النظام الكوني والتوليد الخلقي.
إذن، مفهوم “الرحمن” يُفهم على أنه القوة الفاعلة التي تخلق وتُبدع من خلال نظام ثنائي، حيث تتولد الأشياء عبر عملية زوجية، وهذا ما يفسر ظهور النظام الكوني بجوانبه المتعددة والمتضادة.
فهم “العرش” ودلالته:
العرش يأتي من الجذر “عرش” الذي يشير إلى قوام الأمر وثباته. العرش يحمل دلالات مادية مثل المكان الذي يجلس عليه الملك، لكنه يحمل أيضاً دلالة معنوية قوية وهي السلطة العليا وقوام الأمر. وبالتالي، عندما يأتي النص القرآني بعبارة “العرش” فيما يتعلق بالله، لا يعني ذلك أن الله يجلس في مكان معين كما يجلس الملك، وإنما يُقصد بها قوام أمره وسلطانه المطلق في النظام الكوني.
استوى: استقرار النظام الكوني:
كلمة “استوى” تأتي بمعنى استقر وقام. ولها دلالات مادية ومعنوية. في النص القرآني “الرحمن على العرش استوى”، يتضح أن الدلالة هنا معنوية وليست مادية. المعنى هو أن أمر “الرحمن” قد استقر على نظام الخلق والإيجاد الثنائي الذي يولد من خلاله الوجود. الله سبحانه وتعالى بصفته “الرحمن” قد أحكم نظام الخلق بطريقة توليدية ثنائية تحكم جميع جوانب الكون.
نقد التصورات التراثية حول “استواء الله على العرش”:
بناءً على ما سبق، يتضح أن النص القرآني لا علاقة له بذات الله سبحانه وتعالى، وإنما يتحدث عن فعله وأمره ونظام خلقه. للأسف، كثير من التراث الإسلامي وقع في مهزلة محاولة تفسير “الرحمن على العرش استوى” بطرق مادية تشبه فعل المخلوقات، مما أدى إلى نقاشات لا طائل منها حول “كيف استوى” و”أين استوى” و”هل كان هناك مكان”. هذا كله عبث فكري غير مجدٍ، لأن النص يتحدث عن استقرار نظام الخلق تحت أمر “الرحمن”، ولا يتحدث عن ذات الله أو مكانه.
لذلك، ينبغي وقف هذه المهاترات التي تقوم على سوء الفهم، والتركيز بدلاً من ذلك على مفهوم النظام الكوني والإبداع الثنائي الذي قام عليه الوجود بفضل فعل “الرحمن”، مع التأكيد على تنزيه الله عن أي صفات مادية أو تشبيه بخلقه.
خاتمة:
المفهوم القرآني لـ “الرحمن على العرش استوى” يجب أن يُفهم في سياق قوة وإحكام النظام الكوني، وليس كفعل مادي أو صفة مكانية تُنسب إلى الله. فعل الله مرتبط بالحوادث والزمن، بينما ذاته منزهة عن التغير والحركة، وأمره قد استقر على نظام الخلق الثنائي الذي يدير الكون بأكمله.