مفهوم القسم والحلف في القرآن
تعريف القسم والحلف والفرق بينهما
القسم في اللسان العربي هو أداة لسانية تُستخدم بصيغة معينة مثل “والله” أو “بِـ”. يهدف القسم إلى توكيد مصداقية المتكلم أو إظهار أهمية الأمر الذي يعرضه أو الالتزام بمضمونه، مثل قَسم رئيس الدولة.
أما الحلف فهو مفهوم مشابه يُستخدم عادة في المواقف الشخصية والاجتماعية لتأكيد صدق المتكلم تجاه الآخر.، مثل حلف الشاهد في المحكمة.
بينما القسم يُستخدم في النصوص الدينية لإظهار عظمة موضوع معين، يبرز سؤال جوهري: هل الله يُقسم أويحلف؟ وهل يوجد جهة أخرى قد تكون المتكلمة في النصوص التي تستخدم صيغة القسم؟
هل الله يُقسم؟
عند التفكير في استخدام القسم في القرآن، يجب أن نفهم أن القسم يُستخدم لتأكيد أو توثيق شيء لدى المستمع. ومع ذلك، الله لا يحتاج إلى القسم، لأن كلامه هو الحق المطلق ولا يحتاج إلى توكيد أو إثبات كما يُحتاج في التواصل بين الناس. هذا المبدأ مُدعم في عدة آيات قرآنية مثل قوله تعالى }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا { (النساء: 122). إذن، لا حاجة لله أن يُقسم لأن قوله الحق بذاته. ولا يُخلف وعده.
المتكلم في النص: هل هو الله؟
بناءً على ما تقدم، عند النظر إلى الآيات التي تبدأ بعبارة “لا أُقْسِمُ”، كما في قوله تعالى: }لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ{ (الواقعة: 75)، فإن ذلك يثير التساؤل حول ما إذا كان المتكلم هو الله أم جهة أخرى.
من خلال تحليل دقيق، يمكن القول إن المتكلم ليس الله بالضرورة، لان الخطاب القرءاني مليء بالحوارات والمتكلمين، والسبب الرئيسي هو أن الله لا يحتاج إلى القسم لتوكيد الحقائق.
“لا أقسم”: نفي القسم أم توكيده؟
يوجد اختلاف بين المفسرين حول دلالة “لا أقسم” في القرآن. يمكن تقسيم الرؤى إلى اثنين:
1. “لا” للنفي: وفقًا لهذا الرأي، “لا أقسم” هي نفي للقسم، أي أن المتكلم ينفي الحاجة إلى القسم، وأن موضوع الآية واضح وصريح ولا يحتاج إلى قسم. هذا الرأي يتسق مع فكرة أن الله لا يُقسم، لأن الله لا يحتاج إلى إثبات أو توكيد عبر القسم.
2. “لا” للتوكيد: يرى فريق آخر من المفسرين أن “لا” في “لا أقسم” تأتي للتوكيد، بمعنى أن الله يُقسم فعلاً، ولكن يستخدم “لا” لتعظيم الموضوع (مواقع النجوم). هذا الرأي يعتمد على تفسير يرى في “لا” جزءًا من أسلوب يرفع من شأن القسم.
نقد القول بأن “لا” لا يمكن أن تكون نافية بسبب جملة “وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ”
يعرض بعض المفسرين فكرة أن “لا” لا يمكن أن تكون نافية، وذلك استنادًا إلى الجملة التي تليها: “وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ” فهم يقولون إن إثبات عظمة القسم يجعل من غير المنطقي أن تكون “لا” نافية للقسم. من وجهة نظرهم، إذا كان المتكلم ينفي القسم، فكيف يمكن أن يصف هذا القسم بالعظمة؟
نقد هذا الرأي وتفنيده:
1. “لا أقسم” نافية للحاجة إلى القسم: حتى وإن وصفت الجملة التالية عظمة القسم، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن القسم قد حدث. الجملة “وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ” قد تصف فقط عظمة القسم لو حدث، لكنها لا تشير إلى أن القسم وقع بالفعل. بعبارة أخرى، النص يُظهر أن مواقع النجوم تستحق القسم لو حدث، لكنه ينفي الحاجة إلى قسم من الأساس. إذن “لا أقسم” تعني نفي الحاجة إلى القسم، بينما الجملة التي تليها هي مجرد وصف لعظمة هذا القسم لو تم.
2. عدم الحاجة إلى القسم: وصف عظمة القسم لا يعني أن الله قد أقسم فعليًا. يمكن تفسير هذا على أن مواقع النجوم هي أمر عظيم يستحق القسم به، لكن المتكلم ينفي الحاجة إلى القسم. النص يستخدم أسلوبًا لتسليط الضوء على عظمة مواقع النجوم دون الحاجة الفعلية للقسم، مما يعزز فكرة أن “لا” هنا نافية وليس توكيدية.
3. على افتراض أن “لا أقسم” تفيد توكيد القسم بدلالة ما بعدها ، فهذا يدل على أن المتكلم ليس الله.
4. عدم وجود “جواب قسم”:
o في النحو التقليدي، إذا كان يوجد قسم، يتبعه عادة ما يُعرف بـ”جواب القسم”، وهو الجملة التي تأتي لتوضيح الغرض من القسم أو الهدف منه.
o في سياق سورة “والشمس وضحاها”، لا يوجد ما يسمى “جواب القسم” الذي يحدد ما يتم توكيده أو إبرازه من خلال القسم. الآيات التالية تستمر في وصف النظام الكوني دون تقديم جملة أو فكرة محددة كجواب لقسم، مما يُعزز الرأي بأن هذا ليس قسمًا. المقارنة مع “لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ”
5- قال بعضهم : إن “لا أقسم” في هذه الصياغة بإضافة ألف المد هي تعبير عن “لَ” المفتوحة التي تدخل على الفعل مثل{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} (الإنشقاق: 19) لتبرير أن “لا” في “لا أقسم” ليست نافية، بحجة أن اللام المفتوحة في “لَتَرْكَبُنَّ” تُستخدم لتوكيد وقوع الفعل.
لكن هذا الرأي غير صحيح لعدة أسباب:
• اللام المفتوحة في “لَتَرْكَبُنَّ” تُستخدم لتوكيد الفعل بشكل مباشر، وهو فعل مستقبلي مؤكد. في المقابل، “لا” في “لا أقسم” تُستخدم لنفي القسم أو نفي الحاجة إليه، وليس لتوكيد وقوع فعل معين. الفرق بين “اللام” و”لا” في هذين السياقين واضح؛ اللام تُستخدم لتوكيد الفعل، بينما “لا” تُستخدم لنفي الحاجة إلى القسم.
• دلالة “لا” الممدودة: القول بأن “لا” في “لا أقسم” تشبه “اللام” المفتوحة في “لَتَرْكَبُنَّ” غير دقيق لأن “لا” الممدودة تأتي للتعبير عن نفي القسم وليس لتوكيده. بالتالي، الدلالة البلاغية في الحالتين مختلفة ولا يمكن اعتبارهما متماثلتين.
إثبات أن المتكلم ليس الله
بناءً على التحليل السابق، نستنتج أن المتكلم في آية {لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ليس الله للأسباب التالية:
1. الله لا يحتاج إلى القسم: الله هو مصدر الحق المطلق وكلامه لا يحتاج إلى قسم لتوكيده.
2. نفي القسم: “لا أقسم” تأتي لنفي الحاجة إلى القسم، وهذا يشير إلى أن الجهة المتكلمة قد تكون جهة أخرى تستخدم هذا الأسلوب البلاغي لتسليط الضوء على عظمة مواقع النجوم.
3. الأسلوب البلاغي: القسم في هذا السياق يُستخدم كأداة بلاغية لإظهار عظمة الموضوع المذكور (مواقع النجوم)، لكنه لا يُلزم أن يكون المتكلم هو الله.
4. مجيء جملة ( وإنه قسم لو تعلمون عظيم) لا تفيد بالضرورة أن القسم وقع بالفعل فهي مجرد توصيف.
الواو ليست واو قسم:
1. إن أستخدام الواو في اللسان العربي لهو احتمالات كثيرة يحددها الخطاب وتعلقه، والمشهور في النحو ليس هو للحصر ولايحكم الخطاب الإلهي ؛ بل الخطاب الإلهي هو الذي يحكم النحو، ولذلك يوجد استخدامات كثيرة للواو، مثل واو العطف، واو الاستئناف، واو التعداد، واو القسم…الخ.
2. بناءً على هذا السياق، يمكننا أن نقول إن الواو في “والشمس” ليست من أنواع الواو المشهورة والمستخدمة في كلام الناس ، فهي ليست واو الاستئناف ولا العطف، ولا واو القسم، بل هي واو ابتدائية لبدء كلام جديد لم يسبقه كلام كما أشرت. الغرض من الآية ليس إثبات شيء بالقسم، بل هو مجرد بدء عرض للعناصر الكونية وتعدادها التي تكشف عن النظام الدقيق.
الهدف من النص:
3. النص القرآني في هذه السورة يسعى إلى إظهار عظمة الخلق والنظام الكوني. هذا العرض لا يحتاج إلى قسم أو توكيد طالما المتكلم صادق في نفسه وقوله الحق. بل هو عرض منطقي علمي لعظمة الخلق التي هي واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى توكيد.
الخاتمة
عبر هذا التحليل، يتضح أن الله لا يُقسم لأنه لا يحتاج إلى القسم لتوكيد صدق كلامه، والمتكلم في الآية ليس الله بالضرورة. النص يُستخدم فيه أسلوب بلاغي لتسليط الضوء على عظمة مواقع النجوم، دون أن يتطلب حدوث القسم فعليًا. كما أن الفهم الصحيح لدلالة “لا” في “لا أقسم” هو أنها نافية للحاجة إلى القسم وليست توكيدًا له، ومجيء الواو في بدء الخطاب ليست واو القسم وإنما واو الابتداء.