التواتر في الحديث النبوي: واقع تطبيقي أم مفهوم نظري ؟
الحديث النبوي، يعد عند الشيعة والسنة أحد أهم مصادر التشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، قد مر بعملية تدوين دقيقة ومعقدة عبر التاريخ الإسلامي. ومن بين أمهات كتب الحديث، يعد “صحيح البخاري” أشهرها وأوثقها عند جمهور العلماء من أهل السنة. رغم هذه المكانة العالية، إلا أن الأسئلة حول صحة النقل وظنية أو قطعية ثبوت الأحاديث التي يحويها لم تتوقف. أحد المفاهيم المحورية التي تم تطويرها لضمان قوة النقل وصحة الرواية هو التواتر. في هذا المقال ، سنناقش مفهوم التواتر كما جاء في علوم الحديث، وما إذا كان تحقق في الواقع الروائي للحديث، مع التركيز على كتاب البخاري كنموذج للمناقشة.
تعريف التواتر وشروطه
التواتر في علوم الحديث يعني نقل الحديث عن طريق عدد كبير من الرواة في كل طبقة من طبقات الإسناد، بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب. هذا النقل يشترط أن يكون هناك عدد كبير من الرواة في كل طبقة، وأن ينقلوا الحديث عن مشاهدة مباشرة (بالحس والمشاهدة) وليس عن رأي أو تأويل. إذا تحقق ذلك، يصير الحديث قطعي الثبوت، وهو أعلى درجات الثبوت التي يمكن أن يصل إليها حديث نبوي.
إلا أن التواتر ليس فقط معتمدًا على عدد الرواة، بل يعتمد أيضًا على شروط دقيقة أخرى، مثل استحالة التواطؤ على الكذب، ووجود هذا العدد الكبير من الرواة في جميع طبقات السند. إذا تخلف أحد هذه الشروط، يصير الحديث من أحاديث الآحاد، وها ما جعل كل الأحاديث التي لدينا ظنية الثبوت.
كتاب البخاري والتواتر
“صحيح البخاري”، الذي جُمع وصُنّف على يد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، يُعتبر أحد أمهات كتب الحديث وأوثقها. ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلت في تصحيح وتنقيح هذا الكتاب، لم يتم الادعاء أن جميع أحاديثه متواترة. بل إن كلها من أحاديث الآحاد. ومع ذلك، يُعتبر “صحيح البخاري” أعلى مرتبة بين كتب الحديث من حيث الثقة في سنده ورجاله، وهذا ما جعل علماء الأمة يطلقون عليه لقب “أصح كتاب بعد كتاب الله”.
لكن عند النظر إلى مفهوم التواتر، نجد أن البخاري، رغم دقته الفائقة في اختيار الأحاديث، لم يكن يشترط في كتابه أن يكون الحديث متواترًا. بدلاً من ذلك، كان يعتمد على الشروط المعروفة للحديث الصحيح التي تشمل الثقة في الرواة، اتصال السند، وضبط المتن. التواتر، كمعيار للنقل، لم يكن هو الأساس في تصنيف أحاديث البخاري أو غيره من كتب الحديث.
الواقع العملي لمفهوم التواتر
رغم أن مفهوم التواتر وُضع لضمان الثبوت القطعي، إلا أن تطبيقه في الواقع العملي للحديث يواجه تحديات كبيرة. من أبرز هذه التحديات:
1. غياب الأمثلة المتفق عليها: رغم أن بعض العلماء ذكروا أمثلة لأحاديث متواترة، مثل حديث “من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”، إلا أن هذه الأمثلة لم تحقق إجماعًا كاملًا بين العلماء. وهذا يجعل فكرة وجود حديث متواتر بين الأمة محل خلاف واسع.
2. قلة الأحاديث المتواترة: حتى بين العلماء الذين يقبلون وجود أحاديث متواترة، يعترفون بأن هذه الأحاديث قليلة جدًا بالمقارنة مع حجم الأحاديث التي وصلت إلينا. يُعتبر التواتر أقرب إلى الاستثناء النادر منه إلى القاعدة.
3. النقل الشفهي واحتمالات الخطأ: النقل الشفهي، حتى لو تم عبر عدد كبير من الرواة، يظل عرضة للخطأ والتغيير عبر الأجيال. هذا يعني أن إمكانية حدوث تحريف أو تغيير في النصوص، حتى في حالة التواتر، ليست مستحيلة.
التواتر: مفهوم نظري أكثر منه واقعي
بالنظر إلى الأدلة والممارسات الفعلية في علم الحديث، يمكننا القول إن التواتر هو مفهوم نظري تم تطويره لضمان قطعية ثبوت الحديث. لكنه في الواقع العملي لم يتحقق بصورة واسعة، بل ظل مجرد إطار نظري لا ينطبق على الأحاديث المتداولة بين العلماء.
الأحاديث التي نعتبرها اليوم من “الصحاح” مثل تلك الموجودة في “صحيح البخاري” هي أحاديث آحاد، وهذا يعني أن ظنية الثبوت هي القاعدة في علم الحديث، حتى بالنسبة للكتب التي تُعتبر الأكثر وثوقًا.
التداعيات الأكاديمية
هذا الفهم لمفهوم التواتر، وما إذا كان قد تحقق فعليًا أم لا، يحمل تداعيات مهمة على دراسة علم الحديث:
1. إعادة النظر في التصنيف التقليدي للأحاديث: إذا كان التواتر نظريًا وغير محقق في الواقع، فهذا يدعو إلى إعادة تقييم الأحاديث التي تعتمد بشكل كبير على سلاسل الإسناد المحدودة أو التي لا تحقق شروط التواتر.
2. ظنية الحديث وتأثيرها على التشريع: الحديث الآحاد، بحكم كونه ظني الثبوت، يفتح الباب لمناقشات حول مدى صلاحية استخدامه في مسائل العقيدة أو التشريع. فبينما يرى جمهور العلماء أن الحديث الآحاد يمكن أن يُعتمد عليه في الفقه، هناك من يشدد على ضرورة الحذر في استخدامه في مسائل تتطلب قطعية الثبوت.
3. التاريخ والموثوقية: غياب النسخة الأصلية لكتب مثل “صحيح البخاري”، واعتمادنا على النسخ اللاحقة التي قد تحتوي على بعض الاختلافات، يعزز فكرة أن نقل الحديث قد خضع لتحولات ونسخ، وهو ما يوجب التأني في التعامل مع النصوص والنظر فيها بعين نقدية أكاديمية.
خاتمة
في الختام، يتضح أن مفهوم التواتر، رغم أهميته النظرية في علوم الحديث، لم يتحقق عمليًا في الواقع الروائي بالشكل المتفق عليه بين العلماء. الأحاديث المتداولة، بما في ذلك “صحيح البخاري”، تعتمد على أحاديث الآحاد، مما يجعل الحديث ظني الثبوت. هذا الأمر يفتح الباب لمزيد من الدراسات النقدية والبحثية حول موثوقية النقل ومكانة الحديث في التشريع الإسلامي، داعياً إلى التعامل مع هذه النصوص بحذر أكاديمي وتحليل نقدي يعيد النظر في بعض المفاهيم التقليدية المتداولة.