مفهوم السبر والتقسيم في المنطق
يُعدُّ مفهوم السبر والتقسيم من الأدوات المنطقية والتحليلية الأساسية التي تستخدم في تقييم وتصنيف القضايا والاحتمالات بهدف الوصول إلى نتائج ملزمة وصحيحة. يقوم هذا المفهوم على تقسيم المشكلة أو الموضوع إلى أقسام محددة، ثم فحص (سبر) كل قسم على حدة لمعرفة مدى صحة أو خطأ الاستنتاجات المرتبطة به. يستخدم السبر والتقسيم في مجموعة واسعة من المجالات، من الفلسفة والمنطق إلى العلوم والفقه الإسلامي، كوسيلة للتفكير النقدي المنهجي.
مفهوم السبر والتقسيم:
يُعرَّف السبر والتقسيم بأنه عملية تحليلية تستند إلى فحص شامل لمجموعة من الاحتمالات أو الأقسام المتاحة ضمن مسألة معينة، وذلك للتأكد من صحة كل قسم أو احتمال وتقييم مدى انطباقه على الحالة المدروسة. يتم السبر والتقسيم عادة على مرحلتين:
1. السبر: وهو عملية فحص وتحليل الأقسام أو الاحتمالات المحتملة، لمعرفة مدى صحتها أو تطابقها مع الوقائع.
2. التقسيم: وهو عملية تقسيم المشكلة أو القضية إلى فئات أو أقسام منطقية تسهِّل فحصها ودراستها.
أنواع السبر والتقسيم:
يمكن تقسيم السبر والتقسيم إلى نوعين رئيسيين: السبر والتقسيم الحصري، والسبر والتقسيم الاحتمالي.
1. السبر والتقسيم الحصري:
يعتمد هذا النوع من السبر والتقسيم على حصر جميع الاحتمالات الممكنة، بحيث لا يُترك أي احتمال خارج هذا الإطار. بمعنى آخر، يُفترض أن المنطق والواقع يحصران الاحتمالات ويبعدان الاحتمالات الضعيفة أو الباطلة ليبقى احتمال واحد صحيح وملزم. يتم فحص كل قسم على حدة لمعرفة مدى صحته أو خطئه.
يُعتبر السبر والتقسيم الحصري برهانًا قويًا وملزمًا لأنه يعتمد على مبدأ شمولية الاحتمالات وتغطية كافة الجوانب الممكنة للمسألة. إذا تم إثبات صحة أحد الأقسام أو الاحتمالات بعد الفحص، فإن الاستنتاج الناتج يكون ملزمًا ونهائيًا.
مثال توضيحي:
إذا كان هناك مسألة تتعلق بمعرفة ما إذا كان شخص ما قد ارتكب فعلًا معينًا أو لم يرتكبه، يمكن تقسيم الاحتمالات إلى:
1. إما أن يكون الشخص قد ارتكب الفعل.
2. أو أن الشخص لم يرتكب الفعل.
هنا، لا يوجد احتمال ثالث، وهذا ما يجعل هذا التقسيم حصرًا. إذا أثبتنا أحد هذه الاحتمالات بشكل قاطع، فإن النتيجة تكون ملزمة ونهائية ويصير برهاناً.
2. السبر والتقسيم الاحتمالي:
على عكس السبر والتقسيم الحصري، يعتمد السبر والتقسيم الاحتمالي على تقسيم القضية إلى مجموعة من الاحتمالات التي لا تغطي بالضرورة جميع الجوانب الممكنة، بل تركز على الاحتمالات الأكثر ترجيحًا أو الشائعة. يُستخدم هذا النوع عندما لا يكون من الممكن حصر جميع الاحتمالات أو الأقسام، ويُعد هذا النوع أقل إلزامًا من السبر الحصري لأنه قد يبقي على احتمالات غير مفحوصة.، ويصير دليلاً.
مثال توضيحي:
إذا كان يوجد مسألة تتعلق بتفسير ظاهرة معينة (مثل تغير المناخ)، يمكن تقسيم الاحتمالات إلى:
1. أن الظاهرة ناجمة عن عوامل بشرية.
2. أن الظاهرة ناجمة عن عوامل طبيعية.
3. أو أن الظاهرة ناجمة عن مزيج من العوامل.
قد تكون هذه الاحتمالات شاملة بشكل كبير، لكنها قد لا تغطي جميع الاحتمالات الممكنة مثل التأثيرات الكونية أو العوامل النادرة.
السبر والتقسيم كبرهان في القرآن:
اعتمد القرآن الكريم على أسلوب السبر والتقسيم لإثبات وجود الله الخالق. على سبيل المثال، في سورة الطور، نجد هذا الأسلوب بوضوح في الآيات التالية:
}أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ {(الطور: 35-36).
هنا، يقسم القرآن الاحتمالات المتعلقة بوجود الإنسان والكون إلى ثلاثة احتمالات حصرية:
1. أنهم خُلقوا من غير شيء: وهذا باطل منطقيًا، إذ لا يمكن أن يوجد شيء من لاشيء.
2. أنهم هم الخالقون لأنفسهم: وهذا أيضًا باطل، إذ لا يمكن للمخلوق أن يخلق نفسه لأنه لا يمكن أن يوجد قبل أن يخلق ذاته.
3. وجود خالق غيرهم خلقهم وخلق السماوات والأرض: وهذا هو الخيار المنطقي والصحيح الذي يبقى بعد استبعاد الاحتمالات الأخرى.
التحليل المنطقي (السبر والتقسيم) في هذه الآيات:
في هذه الآيات، يستخدم القرآن تقسيمًا منطقيًا شاملًا لكافة الاحتمالات المتاحة:
• أم خُلقوا من غير شيء؟: استحالة منطقية، لأن اللاشيء لا يمكن أن يخلق.
• أم هم الخالقون؟: استحالة منطقية أخرى، لأنهم لم يكونوا موجودين ليخلقوا أنفسهم.
• أم خلقوا السماوات والأرض؟: مرة أخرى، استحالة لأن قدراتهم البشرية المحدودة لا تؤهلهم لخلق السماوات والأرض غير أن وجودهم أتى متأخراً عن وجود السموات و الأرض.
إذن، النتيجة المنطقية الوحيدة المتبقية هي وجود خالق، وهو الله، الذي خلقهم وخلق الكون. بهذه الطريقة، هكذا يُستخدم السبر والتقسيم ليكون برهانًا قاطعًا لا يقبل الشك، ويُلزم الطرف الآخر بالتسليم للحقيقة الملزمة.
الحصر كبرهان ملزم:
يمثل السبر والتقسيم الحصري برهانًا ملزمًا وقويًا في المنطق والتحليل، وذلك لأنه يعتمد على شمولية الاحتمالات وعدم ترك أي احتمال دون فحص. إذا كان يوجد مجموعة محددة من الاحتمالات التي تُغطي القضية بشكل شامل، فإن تحليل هذه الاحتمالات يُفضي إلى نتائج نهائية وملزمة. بمعنى آخر، إذا تم إثبات صحة أحد الأقسام أو الاحتمالات في إطار السبر الحصري، فإن هذا يؤدي إلى استبعاد جميع الاحتمالات الأخرى، مما يجعل البرهان قائمًا على أسس منطقية صارمة لا تقبل الشك.
على سبيل المثال، في الفقه الإسلامي، يُستخدم السبر والتقسيم كأداة لاستنباط الأحكام الشرعية. عندما يتم تقسيم المسألة إلى مجموعة من الأقسام الشرعية المحتملة، وفحص كل قسم بعناية، فإن النتيجة النهائية التي يتم التوصل إليها تكون ملزمة، إذا كانت جميع الاحتمالات الأخرى غير صحيحة أو مستحيلة.
أهمية السبر والتقسيم في الاستدلال:
تكمن أهمية السبر والتقسيم، وخاصة الحصري منه، في كونه أداة قوية تُستخدم لحل المشكلات المعقدة وتبسيط القضايا عبر تقسيمها إلى مكوناتها الأساسية. يُعد هذا الأسلوب مفيدًا في التفكير النقدي والتحليل المنطقي لأنه يساعد على تحديد الاحتمالات الصحيحة واستبعاد الاحتمالات غير الصحيحة بطريقة منظمة ومنهجية.
خاتمة:
السبر والتقسيم يُعدُّ من أقوى الأدوات المنطقية التي اعتمد عليها القرآن الكريم لإثبات الحقائق الكبرى، ومنها وجود الله الخالق. باستخدام تقسيم شامل واستبعاد الاحتمالات الباطلة، يصل القرآن إلى حقائق ملزمة لا يمكن إنكارها، مما يجعل هذا الأسلوب برهانًا قويًا وفعّالًا في إقناع العقل الإنساني وتثبيته على الحق.