المقاومة لا تعني الانتحار
يعتبر مفهوم “المقاومة” أحد أبرز المفاهيم التي تميز الحركات التحررية والسياسية، لكن كثيراً ما يتم الخلط بين المقاومة المبدئية التي تسعى لتحقيق أهداف مشروعة وبين الانتحار السياسي أو العسكري. المقاومة لا تعني التضحية العمياء أو المواجهة المفتوحة التي تؤدي إلى دمار الذات أو الفشل المحتوم. بل هي استراتيجيات مرنة قد تتطلب أحيانًا التنازل عن بعض الشكليات أو حتى الانسحاب المؤقت للحفاظ على المصلحة الكبرى.
هذه الفكرة تتجلى بوضوح في سلوكيات ومواقف قادة التاريخ الإسلامي مثل خالد بن الوليد في معركة مؤتة، ومعاهدة الحديبية بين النبي محمد ﷺ وقريش، بالإضافة إلى ممارسة النبي للشورى والنزول على رأي أصحابه في بعض الأحيان. توضح هذه الأحداث كيف يمكن للمرء أن يختار المقاومة الذكية والمتزنة بدلاً من المواجهة غير المحسوبة التي قد تؤدي إلى الهلاك.
معركة مؤتة: انسحاب خالد بن الوليد نموذجًا للمقاومة الذكية
في معركة مؤتة (8 هـ / 629 م)، التي تعتبر واحدة من أهم المعارك في تاريخ الصراع الإسلامي الروماني، أُرسل جيش المسلمين لمواجهة الروم في ظروف غير مواتية. قاد الجيش في البداية ثلاثة قادة: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وكلهم استشهدوا في ساحة المعركة. بعد مقتل القادة الثلاثة، تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش، وكان قراره الحاسم الانسحاب التكتيكي.
لم يكن هذا الانسحاب جبنًا أو تخليًا عن المقاومة؛ بل كان تقديرًا دقيقًا للوضع. الجيش الإسلامي كان صغير العدد مقارنة بجيوش الروم، وكان استمرار القتال في ذلك الوقت يعني الانتحار الجماعي. عوضًا عن ذلك، اختار خالد بن الوليد إعادة تنظيم الجيش وإعادة الانتشار، محافظًا على حياة جنوده وفاعليتهم ومعززًا لفرص المسلمين في المعارك المستقبلية.
بعد عودة خالد بن الوليد وجيشه إلى المدينة المنورة، استقبله بعض المسلمين بنقد قائلين: “أفرارًا فررتم؟”، مشيرين إلى انسحابه من المعركة. غير أن النبي محمد ﷺ ردّ بقوله: “بل الكرار إن شاء الله” ، مؤكدًا أن انسحاب خالد لم يكن هزيمة بل تكتيكًا للكر والفر، وهو مبدأ حربي معروف في ذلك الوقت . كان هذا الاعتراف من النبي بمثابة تقدير لحكمة خالد في اتخاذ القرار الصائب في ذلك الموقف الحرج.
معاهدة الحديبية: الدبلوماسية مقاومة في حد ذاتها
حدث آخر يبرز المقاومة السياسية الذكية يتمثل في معاهدة الحديبية التي أبرمها النبي محمد ﷺ مع قريش في العام السادس للهجرة (628 م). هذه المعاهدة كانت بمثابة تحالف مؤقت بين المسلمين وقريش، واحتوت على شروط بدت في ظاهرها مجحفة بحق المسلمين. من أبرز هذه الشروط، البند الذي ينص على أن من يُسلم من قريش ويذهب إلى المسلمين، يجب أن يعاد إلى قريش. ورغم أن هذا الشرط قد يبدو مهينًا، إلا أن النبي ﷺ قبله للحفاظ على السلام وإفساح المجال لنشر الدعوة الإسلامية في أوساط أوسع.
علاوة على ذلك، عندما طلب ممثلو قريش حذف لقب “رسول الله” من الوثيقة والاكتفاء بكتابة اسمه فقط، قبل النبي ﷺ هذا التنازل الشكلي على الرغم من اعتراض أصحابه. كان الهدف الرئيسي للنبي ﷺ هو تحقيق سلام يمكنه من التركيز على أهدافه الكبرى، وهي نشر الإسلام وتمكين المسلمين، بدلًا من الانغماس في مواجهة قد تكون مكلفة جدًا في ذلك الوقت.
تحالفات النبي مع القبائل: تحييد الحلفاء المحتملين لقريش
في فترة الصراع مع قريش، لم يقتصر النبي محمد ﷺ على المقاومة المسلحة فقط، بل لجأ إلى الدبلوماسية والتحالفات مع القبائل المجاورة لتحييدهم ومنعهم من الانضمام إلى صفوف قريش. من أبرز هذه المواقف، اقتراح النبي ﷺ أن يعطي بعض القبائل جزء من محصول ثمار المدينة مقابل تحييدهم وعدم دعمهم لقريش في الحرب. رغم أن هذا الاقتراح لم يُنفذ في النهاية لرفضه من قبل الصحابة، إلا أنه يعكس قدرة النبي ﷺ على التفكير الاستراتيجي واستخدام الموارد الاقتصادية لكسب الدعم أو على الأقل ضمان حياد القبائل المحيطة .
هذه الخطوة كانت تهدف إلى تقليل الضغط العسكري على المسلمين في حال اشتداد المعركة مع قريش، وتؤكد أن المقاومة ليست فقط في ساحة المعركة، بل تتضمن أيضًا استراتيجيات سياسية واقتصادية ذكية تهدف إلى تعزيز فرص النجاح وتخفيف الخسائر.
الشورى في الإسلام: النبي ونزوله على رأي أصحابه
من أبرز السمات التي تميز القيادة الإسلامية هي ممارسة الشورى، حيث كان النبي محمد ﷺ يُشرك أصحابه في اتخاذ القرارات الهامة، ويقبل آرائهم حتى لو كانت مخالفة لرأيه الشخصي. في غزوة أحد، حدثت واحدة من أبرز الأمثلة على الشورى. كان رأي النبي ﷺ أن يتحصن المسلمون داخل المدينة لمواجهة هجوم قريش، لكن غالبية الصحابة، وخاصة الشباب منهم، فضلوا الخروج لمواجهة قريش في ساحة مفتوحة.
رغم أن النبي ﷺ كان يرى أن التحصن في المدينة هو الخيار الأفضل، إلا أنه استجاب لرغبة الصحابة وخرج معهم إلى ساحة المعركة. وللأسف، انتهت المعركة بخسارة المسلمين بسبب عدد من العوامل، أبرزها مخالفة الرماة لأوامر النبي والنزول من جبل الرماة قبل انتهاء المعركة، مما أتاح للعدو فرصة الهجوم المضاد.
هذه الحادثة تُبرز مبدأ الشورى في الإسلام، حيث لم يكن النبي ﷺ يستبد برأيه، بل كان يتيح المجال لأصحابه للمشاركة في اتخاذ القرار، حتى لو كان ذلك يعني القبول بخيارات قد لا تكون الأفضل من الناحية التكتيكية. كان الهدف من ذلك هو تحقيق الوحدة وجعل الجميع يتحمل مسؤولية القرارات المصيرية.
تحليل الحدثين: منطق المقاومة المستنيرة
تتضح من هذه الأمثلة قدرة القيادة على تحقيق الأهداف دون اللجوء إلى العنف أو الانتحار السياسي أو العسكري. فبدلاً من التمسك بالمواقف المتشددة أو مواجهة العدو رغم الظروف الصعبة، فضلت هذه القيادات اتخاذ خطوات تكتيكية ودبلوماسية. إن الانسحاب أو القبول بشروط معينة لا يعني التنازل عن المبدأ، بل يمثل وسيلة للوصول إلى الغايات بطريقة أقل تكلفة وأكثر فعالية.
في معركة مؤتة، فضل خالد بن الوليد الحفاظ على قوة الجيش الإسلامي بدلاً من التضحية بها في مواجهة غير متكافئة. وفي معاهدة الحديبية، قدم النبي محمد ﷺ تنازلات ظاهرية لتأمين مستقبل أفضل للمسلمين، مما أثبت لاحقًا أن المعاهدة كانت خطوة استراتيجية سمحت للإسلام بالانتشار وتعزيز قوته خلال فترة السلم. كما أن تحالفاته مع القبائل المجاورة تظهر كيف كان النبي يعتمد على التفكير الاستراتيجي والدبلوماسية كجزء من مقاومته، وأخيراً، تُظهر حادثة غزوة أحد كيف كان النبي يُمارس الشورى ويحترم رأي أصحابه حتى في القرارات الصعبة.
المقاومة وتجنب الانتحار السياسي والعسكري
إن مفهوم المقاومة لا يعني بالضرورة الثبات المطلق على موقف عنيد قد يقود إلى كارثة محققة. بل على العكس، المقاومة الراشدة والواعية تتطلب التكيف مع الظروف وتعديل الاستراتيجيات عند الحاجة. على هذا الأساس، فإن أي حركة مقاومة أو قيادة سياسية تختار التصلب في موقفها وتصر على المواجهة العسكرية رغم قتل الآلاف من عناصرها، وتدمير البنية التحتية للبلد، وتهجير مئات الآلاف من الشعب، فإنها تتجه نحو الانتحار كمقاومة ونحر الشعب. ليس فقط من مسؤولية تلك القيادات مراجعة مواقفها، بل يجب أن تكون هناك آليات للمساءلة والمحاسبة لعزل القيادات التي تتسبب في مثل هذه الكوارث.
في ضوء تلك المبادئ، فإن مثل هذه الحركات التي تفشل في قراءة الواقع وتُصر على استمرار الصراع المسلح دون تحقيق تقدم يُذكر، يجب أن يتم إيقافها وعزل قادتها، بل وتحويلهم إلى المساءلة والمحاسبة إذا ثبت أن عنادهم كان السبب في استمرار المأساة. المقاومة ليست مجرد حرب، بل هي وسيلة لتحقيق أهداف مشروعة للحماية والحرية والحياة للشعب وليس لتدميره، فالحرب ليست مطلباً لذاتها وليست غاية.
الدروس المستفادة
من هذه الأحداث، يمكن استخلاص عدد من الدروس:
1. المقاومة لا تعني الانتحار: سواء في السياسة أو الحرب، ليست كل مواجهة ضرورية، وقد تكون بعض المعارك خسارتها ضرورية لتحقيق النصر في الصراع الأوسع.
2. الاستراتيجية تتطلب مرونة: التمسك الصارم بالمواقف أو الرموز الشكلية قد يؤدي إلى الفشل، بينما التنازل عن بعض الأمور الثانوية يمكن أن يفتح المجال لتحقيق الأهداف الكبرى.
3. الدبلوماسية كوسيلة للمقاومة: الدبلوماسية ليست هزيمة، بل هي أداة ذكية لتحقيق المصالح الطويلة الأمد. قد تكون المفاوضات والتحالفات هي الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق الأهداف دون تدمير الذات أو الدخول في مواجهات غير محسوبة.
4. القيادة الواعية: القيادة الجيدة تعني القدرة على اتخاذ قرارات صعبة لكنها صحيحة. الانسحاب أو القبول بشروط مجحفة قد يكون أحيانًا الخيار الأفضل لتحقيق الغايات البعيدة.
5. اختيار قيادات واعية راشدة تفهم بالسياسة و تتحرك وفق معطيات الواقع
خاتمة
إن المقاومة الحقيقية لا تقتصر على المواجهة العنيفة أو رفض كل تسوية. بل تتطلب المرونة، والتقدير الدقيق للظروف، واتخاذ قرارات تستند إلى مصلحة الأمة أو الحركة على المدى البعيد. في ضوء معركة مؤتة ومعاهدة الحديبية، نرى كيف أن القيادة الإسلامية لم تتردد في اتخاذ قرارات صعبة ومختلفة عن المفهوم التقليدي للمقاومة، لكنها قرارات أتت بنتائج عظيمة. هذه الدروس تبقى ذات قيمة عالية للحركات السياسية والتحررية في عالمنا المعاصر.