السياسة والشطرنج: بين التحركات الاستراتيجية والتضحيات المحسوبة
السياسة، مثل الشطرنج، هي ساحة للصراع الاستراتيجي، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق مصلحته الخاصة من خلال تحركات مدروسة وتضحيات محسوبة. المقولة التي تفيد بأن “إن أردت فهم لعبة السياسة، افهم لعبة الشطرنج” تعكس بوضوح كيف تتقاطع ديناميكيات هاتين اللعبتين في العديد من الجوانب الأساسية، بدءًا من التخطيط الدقيق وانتهاءً بقدرة اللاعبين على ترك الصراع خلفهم عندما ينتهي.
التحركات والتضحيات لتحقيق المصلحة
في الشطرنج، يبدأ اللاعبون ببيدقهم الصغير، ويدركون أن التضحية ببعضها أحيانًا أمر حتمي من أجل تحقيق هدف أكبر، وهو الانتصار. في السياسة، البيادق تمثل القرارات الصغيرة أو التنازلات التي قد تقدمها الأطراف، سواء كانت شخصيات سياسية أو أحزابًا أو مجموعات عسكرية و حتى دولًا. هذه التضحيات لا تعتبر نهاية بحد ذاتها، بل هي وسائل ضرورية للوصول إلى غايات أكثر أهمية.
السياسيون، مثل لاعبي الشطرنج، يتخذون قراراتهم بناءً على موازنة دقيقة للمكاسب والخسائر. قد يضطر السياسي إلى تقديم تنازلات صغيرة اليوم من أجل تحقيق مصلحة استراتيجية أكبر في المستقبل. على سبيل المثال، قد يتخلى زعيم سياسي عن موقف معين في مفاوضات برلمانية من أجل تأمين تحالفات قوية تؤهله لتحقيق أجندة سياسية واسعة النطاق.
الصراع يبقى على الرقعة
ورغم ما قد يظهر على السطح من حدة في الصراع السياسي، كما هو الحال في الشطرنج، فإن هذا الصراع يظل محصورًا على “رقعة الشطرنج” – أي في إطار القواعد المتفق عليها والممارسات السياسية. ففي الشطرنج، بعد انتهاء اللعبة، مهما كان الخلاف بين اللاعبين أثناء المباراة، تظل العلاقة بينهما قائمة. وهذا ينطبق أيضًا على السياسة عندما يدرك السياسيون المحترفون أن اللعبة السياسية يجب أن تظل ضمن حدود المؤسسات والقوانين، دون أن تنعكس على العلاقات العامة أو المجتمعية.
القدرة على ترك الصراعات السياسية خلفهم بعد انتهاء المعركة هو ما يميز القادة الحقيقيين. ففي النهاية، حتى وإن اختلفوا في الرأي أو في مواقفهم السياسية، يجب أن يجدوا أرضية مشتركة يتعايشون عليها لتحقيق مصالح أخرى ليست محل خلاف؛ بل هي محل تعاون. في هذا السياق، يتمثل الذكاء السياسي في القدرة على العمل مع الآخرين حتى بعد أشد المعارك، والتقدم نحو الأمام لتحقيق المصلحة العامة.
لا قيمة مطلقة للبيادق
من الدروس الأهم التي يمكن استخلاصها من الشطرنج هي أن البيادق لا تحمل قيمة مطلقة. قيمتها تعتمد على سياق استخدامها وتوقيت التضحية بها. كذلك الحال في السياسة؛ فالقرارات أو الشخصيات السياسية أو الاحزاب أو بعض القوى…الخ التي يتم التضحية بها أحيانًا قد لا تكون ذات أهمية دائمة، لكنها قد تكون جزءًا ضروريًا في خطة استراتيجية أوسع.
السياسيون يعرفون أن المواقف الثابتة قد تؤدي إلى الجمود، ولذلك تكون المرونة والتكيف مع الأوضاع الجديدة هما المفتاح للنجاح. التضحية ببعض المكاسب الصغيرة لتحقيق أهداف طويلة الأمد هو جزء أساسي من الفهم العميق للعبة السياسة.
نهاية اللعبة: الغداء والضحك
في النهاية، سواء في السياسة أو في الشطرنج، ما يميز اللعبة هو أن اللاعبين الحقيقيين يستطيعون ترك المنافسة الشرسة على الرقعة والجلوس معًا على طاولة واحدة، يتبادلون الضحكات ويتحدثون بصراحة في المصالح المشتركة بينهما،. هذا الجانب االبراغماتي من السياسة يذكرنا بأن الخلافات في الآراء والمواقف ليست بالضرورة خلافات شخصية. عندما تنتهي اللعبة، يعود الجميع إلى حياتهم الطبيعية، وقد يتعاونون في المستقبل لتحقيق أهداف مشتركة.
القدرة على الفصل بين الصراع السياسي في مسالة معينة والعلاقات البراغماتية ، هي ما يجعل الأنظمة السياسية الناجحة قائمة على الاحترام المتبادل، حتى في أوقات التنافس الشديد. وكما في الشطرنج، حيث يمكن للاعبين أن يكونوا أصدقاء خارج إطار اللعبة، يمكن للسياسيين أن يتعاونوا من أجل مصلحة مجتمعاتهم ودولهم بعد أن تهدأ العواصف السياسية.
الخلاصة
السياسة والشطرنج هما لعبتان تعتمد على التخطيط، التضحيات، والتحرك الاستراتيجي. وينبغي أن نتعلم من كليهما أن الصراع يجب أن يبقى على الرقعة، وأنه في النهاية، القيمة ليست في البيادق التي نضحي بها، بل في الهدف الأكبر الذي نسعى لتحقيقه.، وبالوقت ذاته نكون حذرين في التعامل مع تحركات الخصم ومحاولة معرفة خططه ومقاصده.
اضف تعليقا