هل المنادي لمريم هو ابنها أم الروح؟

       قصة ولادة المسيح عليه السلام من السيدة مريم عليهما السلام تمثل إحدى أعظم المعجزات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. النصوص المتعلقة بهذه القصة تقدم تفاصيل عميقة ومركبة تعكس عظمة الحدث وفرادته. في هذا المقال، نحلل الآية  }فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي{ (مريم: 24)، مع دراسة دقيقة للسياق اللساني والموضوعي لتحديد هوية المنادي وسبب وجوده “من تحتها”، مع الابتعاد عن التفسيرات التقليدية التي لا تستند إلى النصوص.

   أولاً: النصوص المتعلقة بولادة المسيح

  1. النصوص قبل النداء:
  • }فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا{ (مريم: 23).
    • تشير هذه الآية إلى شدة الألم الجسدي والنفسي الذي عانت منه مريم أثناء المخاض، مما يعكس حالتها الضعيفة في تلك اللحظة.
  1. النص الأساسي:
  • }فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا{ (مريم: 24).
    • النص يظهر نداءً موجهًا إلى مريم من موضع أسفل منها، يدعوها إلى عدم الحزن ويشير إلى وجود “سري” (جدول ماء) تحتها.
  1. النصوص بعد النداء:
  • }وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا{ (مريم: 25).
    • توجيه لمريم للقيام بفعل جسدي للحصول على الرزق (الرطب).
  • }فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً{ (مريم: 26).
    • تعليمات لمريم لتجنب مواجهة قومها بالكلام، عبر إعلانها نذر الصوم.

ثانياً: تحليل نص {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا{

  1. فعل “نادى”:
  • “نادى” في اللسان يشير إلى رفع الصوت لتوجيه الكلام إلى شخص بعيد نسبيًا أو غير قريب بما يكفي للتحدث معه بصوت منخفض.
  • استخدام “نادى” بدلًا من “قال” يدل على وجود مسافة بين المنادي ومريم، لكنه لا يشير بالضرورة إلى بعدٍ كبير، بل ربما وجود في موضع منخفض عن مكانها.
  1. “من تحتها”:
  • تشير العبارة إلى مكان المنادي بالنسبة لمريم.
  • “تحتها” يمكن أن تعني:
  1. موضعًا منخفضًا جغرافيًا: الروح قد يكون في موضع أسفل من مكان مريم.
  2. مكانًا قريبًا منها ولكنه أقل ارتفاعًا لمساعدتها على الاحتفاظ بخصوصيتها أثناء الولادة.
  3. محتوى النداء:
  • “أَلَّا تَحْزَنِي”:
    • يهدف النداء إلى طمأنة مريم ورفع حالتها النفسية.
  • “قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا”:
    • إشارة إلى جدول ماء قريب، يُظهر العناية الإلهية بوضع مريم وتخفيف معاناتها.

          ثالثاً: تحديد هوية المنادي

  1. هل هو المسيح أم الروح ؟
  • الأدلة المؤيدة:
    • استمرار وجود الروح:
      • الروح كان حاضرًا في مراحل القصة الأولى (التبشير بالحمل والنفخ)، ولا توجد إشارة في النصوص إلى مغادرته بعد ذلك.
    • التوجيه العملي والنفسي:
      • التعليمات التي وُجهت إلى مريم (هز النخلة، الطمأنة) تتسق مع وظيفة الروح كوسيط إلهي.
  • “من تحتها”:
    • الروح قد يكون في موضع منخفض لتجنب إزعاج مريم أو للتخفيف عنها، وهو ما ينسجم مع دوره في دعمها.
  1. هل هو المسيح (عيسى)؟
  • الأدلة المناقضة:
    • النصوص لا تشير إلى ولادة المسيح قبل هذا النداء.
    • إذا كان المسيح قد ولد، فإن وجوده قريب جدًا من مريم لا يستدعي استخدام فعل “نادى”، بل سيكون الحوار المباشر أكثر منطقية.

      رابعاً: النصوص اللاحقة واستمرار وجود الروح

  1. تعليمات ما بعد الولادة:
  • }فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً{
    • هذه التعليمات مرتبطة مباشرة بمرحلة ما بعد الولادة، مما يشير إلى استمرار وجود الروح مع مريم لدعمها.
  1. مواجهة القوم:
  • }فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي. {
    • الإرشاد لكيفية التعامل مع قومها يعزز فكرة أن الروح استمر في مهمته بعد الولادة، حيث لا يُظهر النص انقطاعًا لوجوده.

    خامساً: الاستنتاج المنطقي:

  • المنادي في {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} هو الروح
  • الروح كان حاضرًا مع مريم من البداية، واستمر في تقديم الدعم النفسي والعملي لها.
  • وجوده “من تحتها” يشير إلى موضع منخفض نسبيًا، ربما لتوفير مساحة نفسية لها أثناء الولادة.
  1. فعل “نادى” يشير إلى مسافة نسبية:
    • المنادي لم يكن ملاصقًا لها تمامًا، بل في موضع يمكنه رفع الصوت لتطمينها.
  2. لا دليل على أن المسيح كان المنادي:
    • النصوص لا تشير إلى ولادة المسيح قبل هذا النداء.
    • استخدام “نادى” لا يتسق مع قرب الطفل المفترض من مريم.
  3. استمرار وجود الروح مع مريم:
    • التعليمات بعد الولادة (هز النخلة، الأكل، الشرب، الصوم) تؤكد استمرار مهمة الروح في دعم مريم حتى مواجهتها قومها.

    خاتمة

    قصة ولادة المسيح في القرآن تقدم نموذجًا فريدًا للعناية الإلهية في أصعب الظروف. تحليل النصوص يظهر أن الروح كان الحاضر في جميع مراحل الحدث، حيث قدم الدعم النفسي والإرشادات العملية لمريم، و استخدام فعل “نادى” وموقع “من تحتها” يدلان على تفاعل مدروس يعزز احترام خصوصيتها وتخفيف معاناتها دون وجود تدخل بشري مباشر أو استنتاجات غير مدعومة بالنصوص.