الدعاء بين الحتمية والاحتمالية
التدبر والتطبيق: تحقيق التوافق بين النص والواقع
التدبر في النصوص القرآنية لا يمكن أن يكون من خلال العزلة عن الواقع أو الجمود على سطحية النصوص. بل يجب أن يتم إسقاط النصوص على محل الخطاب وربطها بالواقع لتحقيق التوافق بين ما أنزل الله وفعل الله في الكون. هذا التوافق ضرورة إيمانية وعلمية، حيث لا يمكن بناء مفهوم إيماني من تصورات معزولة عن الواقع أو من اجتزاء مفردات النصوص دون النظر في المنظومة الكاملة التي تنتمي إليها.
تعريف الدعاء والدعوة في القرآن
كلمة “الدعاء” في اللغة تعني الطلب أو النداء، وهي مأخوذة من الجذر “دعا” الذي يشير إلى نداء شخص أو طلب شيء ما. أما “الدعوة”، فهي تشير إلى توجيه نداء للآخرين بهدف إقناعهم بفكرة معينة أو دعوتهم للقيام بعمل معين. في القرآن الكريم، تأتي كلمة “الدعاء” بمعنى طلب من الله، وتستخدم في مواضع متعددة لتعبر عن الحاجة إلى الله، سواء كانت مادية أو معنوية.
مثال على ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)، حيث يعبر هذا الدعاء عن طلب الخير في الدنيا والآخرة.
أما “الدعوة”، فقد استخدمها القرآن للدلالة على توجيه الناس نحو الحق والإيمان، كما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125)، حيث تشير الدعوة هنا إلى توجيه الناس إلى الطريق الصحيح.
أنواع الدعاء في القرآن: دعاء الطلب ودعاء الجلب
يمكن تصنيف الدعاء في القرآن إلى نوعين رئيسيين:
دعاء الطلب ودعاء الجلب. دعاء الطلب يعبر عن طلب شخصي من الله لتحقيق رغبات فردية، بينما دعاء الجلب يرتبط بالبحث والسعي لتحقيق نتائج ملموسة من خلال العلم والعمل وفق سنن الله في الكون.
دعاء الطلب: فردية الدعاء وتعلقه بمشيئة الله
“دعاء الطلب” هو الدعاء الذي يقوم به الفرد لطلب حاجات شخصية مثل الصحة، الرزق، أو الأولاد. هذا النوع من الدعاء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشيئة الله وحكمته، حيث إن الله قدير على كل شيء، ولكنه يجيب الدعاء إذا كان ضمن الممكنات الاحتمالية ووفقًا لحكمته وعلمه. قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (آل عمران: 38)، يعكس هذا النص طلبًا فرديًا يتطلب تحقيقه توافقًا مع سنن الله في الوجود ومشيئته.
دعاء الطلب لا يمتد تأثيره ليشمل التغيير الاجتماعي أو القضاء على الظلم والفساد. التغيير الاجتماعي يتطلب تفعيل السنن الإلهية من خلال العمل الجماعي والممارسة الفعلية. ولا يمكن لدعاء فردي أن يغير ما بالقوم من تخلف وظلم وفساد دون اتخاذ خطوات عملية لتحقيق ذلك التغيير. وهذا يتطلب فهمًا لمشيئة الله، حيث إن الله يستجيب إذا شاء وفق حكمته، ولا يمكن لأي كائن أن يُملي على الله ما يفعل.
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }الرعد11
دعاء الجلب: طلب العلم بالسنن الإلهية لتحقيق التغيير
“دعاء الجلب” هو نوع من الدعاء الذي يرتبط بالبحث والسعي لاكتشاف سنن الله في الكون واستخدامها لتحقيق نتائج ملموسة. في هذا النوع من الدعاء، يسعى الإنسان لطلب العلم بالسنن التي وضعها الله في خلقه والتي تحكم الكون، وهذا هو معنى دعاء الله في هذا السياق. فعندما يدعو الإنسان الله بهذا المعنى، فهو يسعى لفهم سنن الله وتطبيقها لتحقيق أهدافه.
الآية {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) يعكس هذا النوع من الدعاء، حيث يشجع الله الإنسان على البحث والسعي لفهم السنن الكونية وتطبيقها. الاستجابة هنا تتحقق عندما ينجح الإنسان في فهم السنن واستخدامها بشكل صحيح، طالما لم توجد عوائق تمنع تحقيق النتائج المطلوبة.
هذا النوع من الدعاء يتطلب من الإنسان العمل الدؤوب والسعي لاكتشاف سنن الله في الكون وتطبيقها بحكمة. فالعلم بهذه السنن واستخدامها بشكل صحيح يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة، ويكون الاستجابة محتمة ما لم تعترضها عوائق مادية أو معنوية.
مناقشة آية: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي”
الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) تعبر عن قرب الله من عباده واستعداده للاستجابة لدعواتهم. ومع ذلك، يجب فهم هذه الاستجابة في إطار السنن الإلهية التي تحكم الكون. الله قريب، ويستجيب للدعاء إذا كان متوافقًا مع سننه في الكون. الاستجابة لا تعني بالضرورة تحقيق كل ما يطلبه الإنسان، بل تعتمد على توافق الدعاء مع مشيئة الله وحكمته.
الدعاء هنا يأخذ طابعًا عمليًا وسعيًا لتطبيق العلم بالسنن لتحقيق الأهداف المرجوة. الدعاء الذي يتماشى مع سنن الله في الكون ويأخذ بالأسباب المادية والمعنوية هو الذي يحقق الاستجابة.
“يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ”: استجابة الدعاء في حالة الاضطرار
الآية {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (النمل: 62) تأتي في سياق إثبات وحدانية الله وقدرته المطلقة على التصرف في الكون. هذه الآية تشير إلى حقيقة أن الله هو المتصرف الوحيد في كونه، ولا أحد يستطيع أن يخالف أمره أو ينافسه في تدبير الأمور. عندما يقع الإنسان في حالة من اليأس والاضطرار، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو التوجه بالدعاء إلى خالق الكون، لأنه يدرك في قرارة نفسه أن الله هو الرب الأعلى والقادر على كل شيء.
لكن من المهم ملاحظة أن هذه الآية لا تعد بأن الله سيستجيب لكل دعاء من كل مضطر بالضرورة. الاستجابة ترتبط بمشيئة الله، وهي تخضع لحكمته التي لا يعلمها إلا هو. قد يُستجاب الدعاء بطريقة لا يدركها الإنسان، أو يكون التأخير في الاستجابة جزءًا من خطة إلهية حكيمة لا يعلمها الداعي. الله يعلم ما هو خير لعباده، ويجيب الدعاء وفقًا لحكمته وعلمه الواسع.
وفي سياق وحدانية الله، يأتي السؤال في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61)، ليؤكد أن الله هو الخالق والمتصرف الوحيد في الكون، وأنه عند الضرورة لا يلجأ الناس إلا إليه، لأنهم يعرفون في أعماقهم أنه لا يوجد من هو أقرب أو أقوى من الله للاستجابة لنداءاتهم.
موقف الله من الظلم الاجتماعي والفساد
الظلم والفساد في المجتمع هما نتائج طبيعية لاختيارات البشر وأفعالهم. وفقًا لفلسفة الحياة الدنيا كما يقدمها القرآن، فإن الله قد وضع نظامًا ثنائيًا يقوم على وجود الخير والشر، والعدل والظلم. هذا النظام جزء من الابتلاء الذي يواجهه الإنسان في حياته الدنيوية، حيث الإنسان مُكلف بمهمة الخلافة في الأرض ويتحمل مسؤولية التصرف وفق السنن التي وضعها الله.
الله ليس طرفًا في معادلة الصراع بين الخير والشر، بل هو واضع السنن التي يجب على الإنسان اتباعها لتحقيق العدل ومحاربة الظلم. التدخل الإلهي المباشر لتغيير الواقع دون مراعاة السنن والقوانين الكونية سيكون نقضًا لمفهوم الحكمة والعلم الإلهي، والذي يقوم على تحقيق الأمور وفق السنن والنواميس التي وضعها الله في الكون.
مسؤولية الإنسان في مواجهة الظلم والفساد
مهمة التغيير ومحاربة الظلم والفساد في المجتمع مناطة بالإنسان كشعب ومجتمع. المجتمع بأسره هو المسؤول عن مواجهة الظلم والفساد وتحقيق التغيير من خلال العمل وفق سنن الله في الكون. الإنسان يجب أن يتحمل مسؤوليته في الأرض كخليفة، ويأخذ بالمبادرة لتحقيق العدل والقضاء على الظلم من خلال اتباع السنن والعمل الجاد. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }الصافات24 {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ }الحجر92
الدعاء وحده دون عمل لا يكفي لتحقيق التغيير الاجتماعي، لأنه يتطلب تفعيل السنن والعمل الجماعي لتغيير الواقع. الله وضع قوانين وسنن في الكون لتحقيق التوازن والعدالة، ومسؤولية الإنسان هي استخدام هذه السنن لتحقيق الأهداف المرجوة. الانتظار على استجابة الدعاء دون الأخذ بالأسباب والعمل يعني عدم تحقيق التغيير المرجو.
خاتمة
الدعاء في القرآن هو جزء من الفهم العميق لعلاقة الإنسان بالله وبالكون من حوله. دعاء الطلب فردي ويعتمد على مشيئة الله وحكمته، بينما دعاء الجلب هو عملية حتمية تعتمد على العلم والعمل والسعي لتحقيق التغيير. الله قريب من عباده ويستجيب دعاءهم إذا كان متوافقًا مع السنن الإلهية، ولكن مسؤولية تحقيق التغيير الاجتماعي تقع على عاتق الإنسان من خلال العمل الدؤوب وتفعيل السنن التي وضعها الله. الصراع بين الخير والشر هو جزء من ابتلاء الحياة الدنيا، والله ليس طرفًا مباشرًا في هذا الصراع، بل هو واضع السنن التي يجب على الإنسان اتباعها لتحقيق الخير والعدل في الأرض.
الادعاء بأن النصوص لا تتوافق مع الواقع والله لا يستجيب للدعاء ينبع من سوء فهم للتكامل بين النص وفعل الله في الكون. فالله وضع سننًا تحكم الكون، والدعاء الذي ينسجم مع هذه السنن هو الذي يستجاب له، بينما الدعاء الذي يتعارض معها أو يتجاهلها لا يمكن أن يؤدي إلى النتائج المرجوة.
اضف تعليقا