وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ

إن القرآن الكريم ككتاب الله المسطور يتطابق مع كتابه المنشور (الكون)، مما يقتضي قراءة النصوص القرآنية في سياقها الكامل وربطها بالواقع والمفهوم اللساني. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم كلمة “الجان” في القرآن إلا ضمن منظومة شاملة تستند إلى التحليل اللساني والواقع المشهود، بعيدًا عن الموروث الشعبي الذي يفسر “الجن” ككائن شبحي مستقل. بناءً على المنظومة القرءانية والمنهج اللساني، الذي يرى أن “الجن” يمثل حالات خفية أو طاقات ضمن الإنسان والمجتمع، سنعيد دراسة الآية {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} وفق هذا الإطار.

        تحليل النص وفق مفهوم الجن في المنشور:

  1. “الجان” كصفة وليست جنسًا:
    • الجذر “ج ن ن” يدل على الستر والخفاء.
    • “الجان” في القرآن ليس كائنًا مستقلاً، بل يشير إلى صفات خفية أو حالات طاقية مرتبطة بالإنسان، كما يظهر في السياقات المختلفة (مثل حركة العصا في سورة النمل، والظلام في سورة الأنعام، والنفس في سورة المؤمنون).
  2. النفس الموصوفة بالجان:
    • النفس البشرية هي كيان خفي ضمن الإنسان، لا يُرى مباشرة ولكنه يتحكم في وظائفه الشعورية والعقلية.
    • النفس تمثل “الجان” لأنها طاقية بطبيعتها، وتتحرك بحرية وخفة مقارنة بالجسم الطيني الثقيل.
  3. “نار السموم” والنفس:
    • “نار السموم” تشير إلى طاقة دقيقة ونفاذة، تتوافق مع طبيعة النفس البشرية التي تعتمد على الطاقة الحيوية.
    • إذا كانت النفس مخلوقة من طاقة “نار السموم”، فإنها تمثل الجانب الطاقي للإنسان الذي يواجه جسمه الطيني الثقيل.
  4. “من قبل”:
    • وفق الجذر “ق ب ل” الذي يدل على المواجهة، “من قبل” تشير إلى ترتيب أو مواجهة بين طبيعة النفس الطاقية والجسم المادي.
    • النفس (الجان) كطور أو صفة سبقت اكتمال خلق الجسم الطيني من حيث المراحل الخلقية، وليس كزمن مطلق.

        الربط بين النفس والجن في القرآن:

  1. النفس ككيان طاقي خفي:
    • النفس، وفق القرآن، هي الموصوفة بالخفاء والسيطرة الداخلية، كما في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7].
    • طبيعة النفس الخفية تجعلها تتماهى مع مفهوم “الجان”، الذي يشير إلى الطاقات المستترة.
  2. النفس والجسم كجزء من الإنسان:
    • الجسم البشري مخلوق من الطين الثقيل (الصلصال)، كما في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26].
    • النفس تمثل البعد الطاقي الخفي (الجان)، مما يفسر أن الإنسان كيان مزدوج: طيني ظاهر(الجسم)، وطاقي خفي (النفس).
  3. النفس والجن في المجتمع:
    • وكون كلمة الجن صفة فقد تمثلت ايضاً بمن يمثلون الطبقة الخفية المؤثرة في المجتمع، كما في قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]
    • النفس تؤدي دورًا مشابهًا داخل الإنسان، إذ تتحكم في أفعاله رغم خفائها.

     إعادة تفسير الآية:

  }وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ{

  • “الجان” في هذه الآية يمثل النفس الإنسانية كجانب طاقي خفي.
  • “من قبل” تشير إلى أن النفس كحالة طاقية خُلقت في ترتيب سابق لخلق الجسم الطيني، ولكنها ليست منفصلة عنه.
  • “من نار السموم” تؤكد أن النفس مخلوقة من طاقة دقيقة ونفاذة، تعكس طبيعتها الخفية.

      الانسجام مع المفهوم العام للقرآن:

  1. عدم وجود كائنات مستقلة عن الإنسان:
    • الخطاب القرآني يوجه التشريعات للإنسان ككائن واعٍ، ولا يذكر جنًا منفصلاً عن البشر.
    • الجن في النصوص القرآنية يشير إلى حالات أو صفات ضمن الإنسان أو المجتمع.
  2. النفس كجوهر الإنسان:
    • النفس هي العنصر الخفي الذي يعطي الإنسان طاقته الحيوية، مما يجعلها أقرب ما تكون إلى وصف “الجان”. وهي محل التوفي.
    • التركيب المزدوج للإنسان (النفس الطاقية والجسم الطيني) يعكس التنوع في الخلق الذي تشير إليه الآيات.

 

     الخلاصة:

  • “الجان” في الآية {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} ليس كائنًا شبحيًا منفصلاً عن الإنسان، بل يشير إلى النفس كجانب طاقي خفي.
  • “من قبل” تعني أسبقية ترتيبية، حيث خُلقت النفس الطاقية مقابل الجسم الطيني.
  • “نار السموم” تدل على الطاقة الخفية التي تشكل جوهر النفس.

هذا الفهم ينسجم مع رؤية القرآن كخطاب موجه للإنسان فقط، ويؤكد أن الجن والنفس جزء من المنظومة الواحدة التي تصف الإنسان وحركته في الكون والمجتمع.

ويوجد تداخل بين فئات الناس(الجن والإنس) بالمعيشة والمعشر الواحد ويؤثرون ببعضهم سلبًا وإيجاباً.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ }الرحمن33

{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }الأنعام128