التقويم للبشر أم للإنسان
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (التين 4-6)
تعريف كلمة “التقويم” وأصلها اللساني
الجذر اللساني لكلمة “التقويم” هو “ق و م”، وهو يدل على الاستقامة والاعتدال. يُستخدم هذا الجذر في اللسان العربي للإشارة إلى تسوية الشيء وتحقيق حالته المثلى. الفعل “قوَّم” يعني تعديل الشيء ليكون في أفضل حالاته، سواء من حيث الشكل أو الوظيفة.
التقويم للإنسان وليس للبشر
يذكر النص “الإنسان”، وليس “البشر”. هذه الإشارة مهمة لأن مفهوم “الإنسان” يتجاوز الإطار البيولوجي لـ”البشر”. إذا نظرنا إلى الكائن البشري البيولوجي، نجد أن حواسه وقدراته الجسدية أضعف مقارنةً بالعديد من الكائنات الحية. فالحيوانات تفوق البشر في وظائف حواسها، والسرعة، والقوة وغيرها. وهذا يقودنا إلى استنتاج أن “أحسن تقويم” لا يتعلق بالجانب البيولوجي، بل بمفهوم أعمق يرتبط بالوعي والنفس الإنسانية.
مفهوم التقويم في الإنسان
التقويم المذكور في النص القرآني يتعلق بالوعي الإنساني، الذي يُميز الإنسان عن سائر المخلوقات. هذا الوعي الذي يجعل الإنسان قادرًا على التفكير، التحليل، الابتكار، والتكيف مع بيئته. ولذلك أتى النص الآخر {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (التين: 5) يوضح أن هناك انحدارًا يمكن أن يحدث للإنسان، وهو انحدار معنوي ونفسي. والاستثناء الذي ورد بعده {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (التين: 6) يشير إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما الضمانة للحفاظ على هذا التقويم أو تحسينه.
دور العلم والإيمان في تحقيق “أحسن تقويم”
الإنسان باستخدام وعيه وقدرته على التعلم استطاع أن يطور إمكانياته، متجاوزًا محدودياته البيولوجية. العلم والتقنية مكّنا الإنسان من تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً:
- السيطرة على الحركة والتنقل: ابتكار وسائل النقل الحديثة جعل الإنسان أسرع الكائنات في التنقل، سواء على الأرض أو في الجو أو حتى في الفضاء.
- تحسين الحواس: بفضل الأدوات العلمية، تمكن الإنسان من تحسين قدراته على الرؤية (التلسكوبات، الميكروسكوبات) والسمع (الأجهزة السمعية الدقيقة).
- استكشاف العالم المحيط: تمكن الإنسان من الغوص في أعماق المحيطات والطيران في الفضاء، مما يؤكد أنه تغلب على ضعف حواسه وقدراته البيولوجية وصار أقوى كائن حي على الأرض.
الإنسان بين “أحسن تقويم” و”أسفل سافلين”
يظهر من النص أن الإنسان يمتلك القدرة على الارتقاء أو الانحدار. حالة “أحسن تقويم” هي الإمكانية التي جُبل عليها الإنسان فطرة، لكنه قد يتراجع إلى “أسفل سافلين” بفقدان وعيه المنطقي ، و إهمال إمكاناته، وطغيانه وظلمه وفساده، فلذلك الإيمان والعمل الصالح يساهمان في تعزيز هذا التقويم، حيث يدفعان الإنسان نحو تحقيق غايته الكبرى في عمارة الأرض وفق مفهوم السلام والأمان ككائن واعٍ ومسؤول عن سلوكه.
الخاتمة
نص {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هو إشارة إلى مكانة الإنسان المميزة بوعيه وقدرته على التطور، وليس مجرد تكوينه البيولوجي. الإنسان باستخدام العلم والمعرفة يمكنه تحقيق التفوق على كل الكائنات الأخرى، ليصير سيد الأرض. ومع ذلك، فإن هذا التفوق مرتبط بالحفاظ على القيم والإيمان، لأن غياب الوعي الأخلاقي يقود إلى انحدار الإنسان إلى “أسفل سافلين”.
اضف تعليقا