ملة اليهود أم الملة اليهودية

      مفهوم “اليهود” و”اليهودية” في النصوص القرآنية يعكس اختلافًا جوهريًا في الإشارة بين الجماعة البشرية (اليهود) والمنهج الفكري (اليهودية). في هذه الدراسة، نتناول هذا التمييز اللساني والمنهجي، مع التركيز على دلالة “ملة” في السياق القرآني ومدى تأثير هذا المصطلح في فهم النصوص.

   التأصيل اللساني والمفهومي

   الجذر اللساني “هود” يشير إلى الحركة الماضوية المنغلقة على ذاتها المنتهية بالإقصاء للمخالف. في القرآن، يطلق على جماعة من الناس يُشار إليها بـ”اليهود”،  لتهودهم ، وتحمل في الوقت ذاته منهجًا فكريًا وسلوكيًا مميزًا. هذا المنهج، الذي يمكن وصفه بـ”اليهودية”، يشير إلى نظام فكري يعبر عن سلوكيات الجماعة وانحيازاتها الفكرية.

     كلمة “ملة” في النصوص القرآنية تعني المنهج الفكري والنظام العقائدي الذي يتبناه الأفراد. على سبيل المثال، تشير “ملة إبراهيم” إلى الحنيفية. بالمثل، يمكن الإشارة إلى “ملة اليهود” كمنهج فكري وليس كإشارة إلى جماعة بشرية فقط. ومن هنا تظهر الإشكالية: هل الصواب القول “ملة اليهود” أم “الملة اليهودية”؟

    تحليل مفهوم “ملة اليهود” و”الملة اليهودية”

    حين نقول “ملة اليهود”، فإننا نخلق تصورًا عن وجود فئة محددة من الناس يحملون اسم “اليهود” ولديهم ملة خاصة بهم. وهذا قد يقود إلى فهم أن اليهود كأفراد هم الممثلون الوحيدون لهذا المنهج. لكن القرآن لا يحصر هذا المنهج في جماعة بعينها، بل يشير إلى أن أي شخص يتبنى هذا النظام الفكري يصير “يهوديًا” بمعنى الانتماء الفكري، وليس بالضرورة انتماءً عرقيًا أو تاريخيًا.

بالمقابل، تعبير “الملة اليهودية” يركز على المنهجية نفسها، بوصفها نظامًا فكريًا يمكن أن يتبناه أي فرد أو جماعة. هذا التوصيف ينسجم مع التحليل القرآني الذي لا يربط الانتماء للمنهج بالعرق أو التاريخ، بل بالسلوك والتفكير. فالقرآن ينظر إلى الانتماء الفكري كحالة ديناميكية متغيرة، حيث يمكن للإنسان أن يتبنى منهجًا ثم يتركه.

النصوص القرآنية وتوضيح المفهوم

النصوص القرآنية تقدم إشارات واضحة حول العلاقة بين المنهج والشخصية الفكرية. على سبيل المثال:

  • “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا” (آل عمران: 67) تنفي عن إبراهيم الانتماء لأي من هذه المنهجيات.

النفي هنا لا يتعلق بالأفراد بل بالأنظمة الفكرية. إبراهيم لم يكن يهوديًا أو نصرانيًا، بل كان يتبع منهج الحنيفية المرتبط بالفطرة ووحدانية الله كخالق مدبر وتوحيده بالعبادة. وهذا يوضح أن مصطلحات مثل “يهودي” و”نصراني” ليست مجرد تسميات لجماعات بشرية، بل توصيفات لسلوكيات ومنهجيات فكرية.

     التوازن بين المصطلحين

    عند مقارنة “ملة اليهود” و”الملة اليهودية”، يتضح أن الصيغة الأولى تشير إلى المنهجية بوصفها مرتبطة بجماعة تاريخية، بينما الثانية تركز على المنهج الفكري ككيان مستقل. لكن الاستخدام القرآني يُظهر مرونة: أي شخص يتبنى المنهج الفكري المرتبط باليهودية يصير “يهوديًا” بصرف النظر عن انتمائه العرقي.

على هذا الأساس، يمكن القول إن الصواب هو التركيز على “الملة اليهودية” كمنهج فكري مستقل عن الجماعة، لأن القرآن لا ينظر إلى الانتماء الفكري على أنه حكر على مجموعة بشرية واحدة. بالتالي، يمكن لأي شخص أو جماعة أن تنتمي لهذا المنهج إذا تبنته.

    الحنيفية مقابل اليهودية

     الحنيفية، كما تُعرض في القرآن، تمثل التوازن الفكري والمنهجي المتصل بالفطرة والتحديث وفق محور الثابت والمتغير. في المقابل، اليهودية كمنهج تميل إلى الانغلاق والجمود والإقصاء. على سبيل المثال، الحنيفية تُمثل حركة تجديد مستمرة تقوم على الموازنة بين الثابت والمتغير، بينما اليهودية تمثل انكفاءً على الذات ورفضًا لأي تغيير.

  • الحنيفية: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ” (الروم: 30).
  • اليهودية: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا”

(البقرة: 170)  

 هذه المقارنة توضح أن المنهج الحنيفي يشجع على التفاعل مع المتغيرات دون أن يفقد الثوابت، بينما يركز المنهج اليهودي على الانغلاق والانكفاء على الذات وإقصاء الآخر.

     الخاتمة

    من خلال التحليل اللساني والقرآني، يظهر أن “الملة اليهودية” تعبر عن النظام الفكري المرتبط باليهودية بشكل أشمل وأكثر دقة من “ملة اليهود”، التي قد توحي بارتباط حصري بالجماعة البشرية المسماة باليهود. القرآن يوضح أن الانتماء للمنهج الفكري هو خيار فكري وسلوكي يمكن أن يتبناه أي فرد أو جماعة.

فهم هذا الفارق يساعد في قراءة النصوص القرآنية بطريقة أعمق، ويبرز الحنيفية كمنهج متوازن يواكب الفطرة الإنسانية والتطور، في مقابل المنهجيات الأخرى التي تميل إلى الجمود أو التعصب.