غمرات الموت وسكراته وخروج النفس وتوفيها
يتناول القرآن الكريم الموت بوصفه حقيقة مصيرية تواجه كل إنسان، وتتفاوت تجاربها باختلاف طبيعة الإنسان وسلوكه في الحياة. في هذا السياق، نجد مفاهيم رئيسية تتعلق بالموت، وهي “غمرات الموت” و”سكرة الموت” و”توفي النفس”. “خروج النفس” لفهم هذه المفاهيم، نستخدم منهجًا لسانيًا ومنطقيًا يرتكز على تحليل النصوص القرآنية ودلالاتها.
سكرة الموت في السياق القرآني
وردت “سكرة الموت” في قوله تعالى:
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].
التحليل الدلالي
- الجذر “س- ك- ر”: يشير إلى الحيرة والاضطراب المكرر.
- سكرة الموت: تعبر عن لحظة انكشاف الحقيقة التي كان الإنسان يحاول تجنبها أو إنكارها طوال حياته. العبارة “ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ” تؤكد أن الإنسان كان يحاول الهروب من فكرة الموت أو إنكارها، وهو سلوك يعكس عدم الإيمان بحقيقة البعث.
السياق النفسي
تشير “سكرة الموت” إلى حالة عامة تشمل جميع البشر، حيث يواجهون حقيقة الموت التي تجلب معها الحيرة والاضطراب بسبب إدراكهم لحقائق لم يكونوا مستعدين لها.
غمرات الموت في السياق القرآني
وردت “غمرات الموت” في قوله تعالى:
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الأنعام: 93].
التحليل الدلالي
- الجذر “غ- م- ر”: يدل على الغياب بتجمع منضم متصل، يتكرر ليشكل حالة من الكرب الشديد.
- غمرات الموت: تشير إلى شدائد متصلة تحيط بالظالمين عند مواجهة الموت. هذه الشدائد ليست مجرد حالة شعورية، بل عقاب إلهي على أفعالهم، حيث تُفرض عليهم بطريقة متكررة ومنظمة.
السياق العملي
“غمرات الموت” تعبر عن حال خاص بالظالمين الذين افتروا على الله وكذبوا بآياته. يتجلى هذا الحال في صراعهم مع أنفسهم عند خروج أنفسهم، وهو مظهر من مظاهر الجزاء الإلهي، ولذلك أتى فعل أخرجوا يدل على الزجر والاحتقار لهم.
توفي النفس وخروجها في السياق القرآني
يُقدم القرآن مفهوم “توفي النفس” بوصفه عملية حقيقية تنطوي على مغادرة النفس للجسد عند الموت أو النوم. وهذا يتضح في قوله تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر: 42].
التحليل الدلالي
- الجذر “و- ف- ى” يشير إلى الإتمام والاكتمال. “توفي النفس” تعني إتمام قبضها ومغادرتها للجسد.
- حقيقة التوفي: ليس مجرد توقف وظائف الجسد، بل هو انتقال للنفس من حالة الارتباط بالجسد إلى حالة الاستقلال عنه.
- ولايستخدم فعل “أخرجوا” مع المؤمنين وإنما فعل التوفي برفق وإجلال وتقدير.
(الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)
(النحل 32)
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }(الزمر73)
خروج النفس
يشير القرآن أيضًا إلى عملية خروج النفس في قوله تعالى:
[وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ] [الأنعام: 93].
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) (الأنفال 50)
- “أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ”: تؤكد أن النفس تُجبر على مغادرة الجسد بأمر الملائكة، وهو فعل يدل على الانفصال التام عن الجسد مع زجر وإهانة لهم..
- هذا الخروج مرتبط بالجزاء، حيث يُجبر الظالمون على مواجهة عذاب الهون.
المنهجية القرآنية في التفسير
يُظهر القرآن الكريم ترابطًا بين “غمرات الموت” و”سكرة الموت” و”توفي النفس”. و “خروج النفس” الأول يعبر عن عقاب الظالمين بشدائد متكررة، والثاني عن لحظة الإدراك الشامل للحقيقة، والثالث عن انتقال النفس من الجسد برفق وتقدير، والرابع انتقال النفس بزجر وإهانة. يعكس هذا الترابط عمق الدلالات القرآنية وأهمية تدبرها لفهم المعاني الدقيقة المتعلقة بالموت.
الخاتمة
“سكرة الموت” و”غمرات الموت” و”توفي النفس” و “خروج النفس” مفاهيم قرآنية تعكس أبعادًا مختلفة لتجربة الموت ومغادرة النفس للجسد الذي فارقته طاقة الحياة. هذا التمايز يبرز دقة القرآن في وصف الموت ويدعو إلى مزيد من التدبر لفهم معانيه الشاملة.
اضف تعليقا