مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ
يعدّ التدبر اللساني والمنطقي للنص القرآني إحدى الوسائل لفهم مدلولاته بعيداً عن القوالب التراثية والتأويلات التقليدية. في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ…} (العنكبوت:48)، نقف أمام نص يفصل بين مرحلتين زمنيتين: ما قبل نزول القرآن وما بعده. تحيل هذه الآية إلى الحالة المعرفية للنبي (صلى الله عليه وسلم) قبل النبوة، وتنفي عنه تلاوة أي كتاب أو كتابته، سواء أكان “الكتاب” مدوّناً على قرطاس مادي أم محفوظاً في صدره. سنحاول في هذا المقال التوسع في تحليل مفهوم “الكتاب” وماهيته، ونستعرض دلالة “التلاوة” و”الخط”، إضافة إلى إثبات هذه المعاني يقيناً بشكل منطقي ولغوي.
أولاً: مفهوم “الكتاب” في السياق اللساني: غالباً ما تُحمَّل كلمة “كتاب” دلالة مادية (مخطوط، سطور مكتوبة، حروف مرسومة)، غير أنّ المفهوم اللساني أوسع من ذلك. فالكتاب في اللسان العربي يدل على جمع أشياء من جنس واحد في نسق معيّن، وهو لا يشترط وجود مادة ملموسة. بعبارة أخرى، “الكتاب” قد يكون جمعاً لأفكار وحقائق مستقرة في الذهن (في القلب) أو منظومة نصية على قرطاس.
من هذا المنطلق، حين تنفي الآية تلاوة النبي لأي “كتاب” قبل نزول القرآن، فهي تنفي عنه أمرين معاً:
- عدم التلاوة من مخطوط مادي: لم يكن النبي يتلو نصوصاً مدوّنة، إذ لم يكن يتعاطى مع مخطوط مكتوب على وسيط مادي.
- عدم التلاوة من حفظ داخلي سابق: لم يكن النبي يحمل في صدره منظومة نصية سابقة يتلوها بانتظام.
وبذلك ينكشف لنا أن النفي القرآني للتلاوة والكتابة أوسع من مجرد نفي القدرة على التعامل مع ورق أو رقوق؛ إنه نفي لوجود مرجعية نصية سابقة، مادية أو ذهنية، يستند إليها النبي قبل البعثة.
ثانياً: دلالة هذا النفي وثبوته يقيناً: يشير النص القرآني بوضوح ويقين إلى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يتلو أو يخطّ أي نص من قبل نزول القرآن. هذه النقطة ثابتة تاريخياً في السيرة النبوية، حيث لم يثبت أن النبي انخرط في منظومة تعليمية كتابية أو قرائية لمخطوطات دينية أو أدبية قبل البعثة. كما لم يثبت أنّه كان يحفظ نصوصاً مكتوبة من ذاكرته. هذا اليقين يستند إلى ما هو متفق عليه من حال الجزيرة العربية زمن نزول الوحي، وما نص عليه القرآن نفسه، ولا يبطله ظن أو رغبة تحاول أن تجعل النبي كاتباً أو ناسخاً قبل البعثة.
إن بعض الآراء التي تحاول إثبات أنّ النبي كان يقرأ المخطوطات أو يخطها بيده تعود في الغالب إلى تصورات غير يقينية، ومسكونة بمحاولة إلحاق بمنظومة تعلّم كتابي مسبق. لكن “الظن” لا يرفع “اليقين”. واليقين هنا قائم على شهادة النص القرآني، وعلى سياق البيئة التي ظهر فيها. لقد نفى القرآن نزوله في قرطاس، أي نفى أن يكون نصاً مادياً مكتوباً مباشرة للمخاطبين، قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ…} (الأنعام:7)، ما يدل على أن عملية التعلّم والتلقي كانت مباشرة من الوحي إلى قلب النبي.
ثالثاً: التمييز بين مفهومي القراءة والتلاوة والكتابة والخط: القراءة في السياق اللغوي هي عملية جمع وتحليل وفهم للمعلومات، سواء جاءتها من عالم النص أو من الكون، وهي لا تستلزم وجود مخطوط مادي. والنبي كان قارئاً بالمعنى التحليلي: فهو يدرك، يفهم، يجمع المعلومات ويستنبط منها المعنى، وهذا يظهر جلياً في قصته مع الوحي وفي تدبره لآيات الله الكونية قبل نزول القرآن.
أما التلاوة والكتابة (الخط)، فهما إجراءان تقنيان:
- التلاوة: إعادة إنتاج نص معلوم عبر النطق، وغالباً ما ترتبط بنص مدوّن أو محفوظ يُعاد ترتيله.
- الخط: رسم الحروف على وسيط مادي لتشكيل نص مكتوب.
النبي كان يتلو القرآن من قلبه، لا من مخطوط ولا من ذاكرة نص سابق، وكان يؤلف رسائله ويقرأها بمعنى يفهمها ويحللها، ويُملي على الناسخين دون أن يخط بيده. وهذا الأمر لم يطرأ بعد النبوة فقط، بل هو امتداد لحاله قبل النبوة، حيث لم يكن يمارس تلاوة مخطوط أو كتابته إطلاقاً.
رابعاً: نماذج تاريخية للتفريق بين المفاهيم: لتوضيح هذه الفكرة، يمكن الاستشهاد بشخصيات عرفت بكونها مؤلفين كباراً وقراء من الطراز الرفيع، دون أن يكونوا خطاطين أو متمرسين في تلاوة المخطوطات بأعينهم. مثلًا:
- طه حسين: كان مفكراً وأديباً، يفهم النصوص ويحفظها ويحللها ويبدع في صياغتها، ومع ذلك كان ضريراً لا يمكنه تلاوة المخطوط بالعين.
- أبو العلاء المعري: شاعر وفيلسوف كبير مكفوف، كان يجمع المعرفة ويحللها ويصدر المؤلفات، لكنه لم يكن يخط بيده أو يتلو المخطوط بصرياً.
هذان النموذجان يثبتان أن القدرة على “القراءة” الفكرية والتحليلية والتأليف (الكتابة الذهنية) لا تقتضي بالضرورة القدرة على التلاوة البصرية للمخطوط أو خطه باليد. بنفس المنطق، كان النبي قبل النبوة وبعدها مفكراً، محللاً، قارئاً للظواهر ودارساً للأحداث، ويؤلف ويصوغ المعاني ويمليها، ولكنه لا يتعامل مع المخطوطات تلاوةً أو خطًا.
خامساً: أثر ذلك في مصداقية الرسالة: لو ثبت أن النبي كان يتلو من مخطوط أو يخطه بيده قبل نزول القرآن، لارتاب المبطلون وشككوا في أصالة رسالته، وربطوا القرآن بمصادر بشرية سابقة. لكن نفي التلاوة والخط قبلاً وبعداً حافظ على يقين الرسالة ومصداقيتها. ولو تغيرت هذه الصفة أثناء حياته، لكان النص القرآني محل تشكيك. فالثبات على حال “عدم التعامل مع النص المخطوط” أعطى النص القرآني حصانة من دعوى الانتحال أو الاقتباس.
خاتمة: إن تدبر قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ…} بلحاظ مفهوم “الكتاب” الواسع، ووضع “التلاوة” و”الخط” في سياقهما اللساني والمنطقي، يكشف عن حقيقة يقينية: لم يكن النبي قبل النبوة، ولا بعدها، يتلو مخطوطاً أو يخطه، بل كان قارئاً ومؤلفاً بمعنى التحليل والفهم وجمع المعلومات لا بمعنى التلاوة البصرية والنسخ المادي. إنَّ “الأمية” في سياق النبي صفة أصالة ونقاء ومرجعية، لا نقيصة أو افتقار للقدرة على التعلم، وهي نقطة مفصلية تحافظ على مصداقية الرسالة وتقطع دابر الشكوك والظنون. هذه النتائج القائمة على المنطق واللسانيات والتحقق التاريخي تقف في وجه أي محاولة لرفع الظن إلى مرتبة اليقين، وتؤكد أن اليقين القرآني لا يخضع لتصورات شاردة أو فرضيات غير قائمة على دليل.
اضف تعليقا