النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ
إِنَّ دِرَاسَةَ مَفْهُومِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ فِي سِيَاقِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ تَعْتَمِدُ عَلَى فَهْمٍ دَقِيقٍ لِلنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَتَحْلِيلِهَا وَفْقَ الْمَنْطِقِ اللِّسَانِيِّ. تُظْهِرُ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ قَارِئًا وَمُؤَلِّفًا بِالْمَعْنَى الْفِكْرِيِّ وَالتَّحْلِيلِيِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَعَامَلُ مَعَ النُّصُوصِ الْمَخْطُوطَةِ كِتَابَةً أَوْ تِلَاوَةً. هَذِهِ الدِّرَاسَةُ تَهْدِفُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ ذِكْرًا صَوْتِيًّا، وَأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ يَخُطُّ بِيَدِهِ أَوْ يَتْلُو مِنْ نُصُوصٍ مَخْطُوطَةٍ، مَعَ تَفْصِيلِ مَفْهُومِ “الْكِتَابِ” وَ“التِّلَاوَةِ” وَ“الْخَطِّ”.

أَوَّلًا: مَفْهُومُ “الْكِتَابِ” فِي الْقُرْآنِ
أ. الدِّلَالَةُ الْمَادِّيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ لِلْكِتَابِ
“الْكِتَابُ” فِي الْقُرْآنِ يُشِيرُ إِلَى جَمْعٍ مُنْتَظِمٍ مِنَ الْأَفْكَارِ أَوِ النُّصُوصِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَادِّيًّا (مَخْطُوطًا عَلَى قِرْطَاسٍ) أَوْ غَيْرَ مَادِّيٍّ (مَنْظُومَةً مَحْفُوظَةً فِي الذِّهْنِ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ…” (الْعَنْكَبُوتُ: 48). هَذَا النَّصُّ يَنْفِي عَنِ النَّبِيِّ أَمْرَيْنِ:

  1. عَدَمُ تَعَامُلِهِ مَعَ مَخْطُوطٍ مَادِّيٍّ قَبْلَ الْبِعْثَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ طِوَالَ حَيَاتِهِ.
  2. عَدَمُ امْتِلَاكِهِ مَنْظُومَةً نَصِّيَّةً مَحْفُوظَةً فِي صَدْرِهِ يَتْلُو مِنْهَا.

ب. نَفْيُ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِقِرْطَاسٍ
أَكَّدَ الْقُرْآنُ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْزِلْ بِصُورَةٍ خَطِّيَّةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ” (الْأَنْعَامُ: 7). هَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّلَقِّي كَانَ عَبْرَ ذِكْرٍ صَوْتِيٍّ فَقَطْ.

ثَانِيًا: التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ كَأَسَاسٍ لِلْقُرْآنِ
أ. النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ كَذِكْرٍ صَوْتِيٍّ
نَزَلَ الْقُرْآنُ ذِكْرًا صَوْتِيًّا عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ، وَلَيْسَ عَبْرَ نُصُوصٍ مَخْطُوطَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ” (الشُّعَرَاءُ: 193-195). هَذَا التَّوْصِيفُ يُؤَكِّدُ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مُبَاشَرَةً دُونَ وِسَاطَةٍ مَادِّيَّةٍ.

ب. أَهَمِّيَّةُ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ
التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي نَقْلِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَحِفْظِهِ. قَالَ تَعَالَى: “وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ…” (النَّمْلُ: 92). كَمَا أَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ بِتِلَاوَةِ الْآيَاتِ عَلَى النَّاسِ لَفْظًا، مِمَّا يُبْرِزُ أَهَمِّيَّةَ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ كَوَسِيلَةِ تَبْلِيغٍ وَحِفْظٍ.

ثَالِثًا: الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْكِتَابَةِ
أ. الْقِرَاءَةُ التَّحْلِيلِيَّةُ مُقَابِلَ التِّلَاوَةِ النَّصِّيَّةِ
النَّبِيُّ كَانَ قَارِئًا بِمَعْنَى التَّحْلِيلِ وَالْفَهْمِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتْلُو النُّصُوصَ الْمَخْطُوطَةَ أَوْ يَخُطُّهَا بِيَدِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ…” (الْعَنْكَبُوتُ: 48). هَذَا النَّصُّ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْفَهْمِ التَّحْلِيلِيِّ لِلنُّصُوصِ (الْقِرَاءَةِ) وَبَيْنَ إِعَادَةِ إِنْتَاجِهَا بَصَرِيًّا أَوْ خَطِّهَا يَدَوِيًّا.

ب. الْخَطُّ كَمَهَارَةٍ تِقْنِيَّةٍ
الْخَطُّ هُوَ مَهَارَةٌ تِقْنِيَّةٌ تُسْتَخْدَمُ لِرَسْمِ الْحُرُوفِ عَلَى وَسِيطٍ مَادِّيٍّ. النَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ يَمْتَلِكُ هَذِهِ الْمَهَارَةَ، لَكِنَّهُ كَانَ يُمْلِي النُّصُوصَ وَيَفْهَمُهَا، مِمَّا يُظْهِرُ تَفَوُّقَهُ فِي التَّلَقِّي الصَّوْتِيِّ وَالتَّبْلِيغِ الشَّفْهِ.

رَابِعًا: الْأَدِلَّةُ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ
أ. اخْتِلَافُ الرَّسْمِ الْقُرْآنِيِّ وَالتِّلَاوَةِ
رَسْمُ الْقُرْآنِ يَحْتَوِي عَلَى بَعْضِ الاخْتِلَافَاتِ الَّتِي تُبْرِزُ أَهَمِّيَّةَ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ كَمَرْجِعٍ. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ:

  1. “الصَّلَاةُ” تُكْتَبُ “الصَّلَوْةُ”.
  2. “الزَّكَاةُ” تُكْتَبُ “الزَّكَوْةُ”.
  3. “الرِّبَا” تُكْتَبُ “الرِّبَوَا”.
    لَوِ اعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الرَّسْمِ فَقَطْ لَاخْتَلَفَ النُّطْقُ وَالْمَعْنَى، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ التِّلَاوَةَ الصَّوْتِيَّةَ هِيَ الْحُجَّةُ.

ب. الْحِفْظُ الصَّوْتِيُّ عَبْرَ الْأَجْيَالِ
حَفِظَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ عَبْرَ التِّلَاوَةِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ، وَلَيْسَ عَبْرَ الْمَخْطُوطَاتِ. هَذَا الْحِفْظُ الصَّوْتِيُّ يُعَدُّ الْحُجَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي إِثْبَاتِ صِحَّةِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ.

خَامِسًا: الرَّدُّ عَلَى الشُّبُهَاتِ
أ. نَفْيُ التِّلَاوَةِ الْمَادِّيَّةِ
الِادِّعَاءُ بِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَتْلُو النُّصُوصَ الْمَخْطُوطَةَ أَوْ يَخُطُّهَا بِيَدِهِ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ قُرْآنِيٍّ أَوْ تَارِيخِيٍّ. النُّصُوصُ الَّتِي يُسْتَشْهَدُ بِهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ تُفَسَّرُ خَطَأً، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: “وَلَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ” (الْقِيَامَةُ: 16)، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَى اسْتِعْجَالِ النَّبِيِّ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ فِي مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ إِلَى تِلَاوَةٍ مِنْ مَخْطُوطٍ.

ب. الرَّسْمُ الْقُرْآنِيُّ لَيْسَ الْوَحْيَ
الرَّسْمُ الْقُرْآنِيُّ هُوَ وَسِيلَةُ تَوْثِيقٍ لِلنَّصِّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْوَحْيَ ذَاتَهُ. الْوَحْيُ هُوَ الذِّكْرُ الصَّوْتِيُّ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّبِيُّ وَبَلَّغَهُ لِلنَّاسِ، مِمَّا يُبْطِلُ أَيَّ ادِّعَاءٍ بِأَنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْأَصْلُ فِي نَقْلِ النَّصِّ.

خَاتِمَةٌ
تُؤَكِّدُ الدِّرَاسَةُ أَنَّ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا كَانَ قَارِئًا وَكَاتِبًا وَمُؤَلِّفًا بِالْمَعْنَى الْفِكْرِيِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتْلُو أَوْ يَخُطُّ النُّصُوصَ الْمَخْطُوطَةَ. الْقُرْآنُ نَزَلَ ذِكْرًا صَوْتِيًّا عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ، وَكَانَتِ التِّلَاوَةُ الصَّوْتِيَّةُ هِيَ الْأَسَاسَ فِي نَقْلِهِ وَحِفْظِهِ. الرَّسْمُ الْقُرْآنِيُّ وُضِعَ لِتَثْبِيتِ النَّصِّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَصْلَ. هَذَا الْفَهْمُ يُحَافِظُ عَلَى مِصْدَاقِيَّةِ الرِّسَالَةِ وَيَقْطَعُ دَابِرَ الشُّكُوكِ الَّتِي تُحَاوِلُ الرَّبْطَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْمَصَادِرِ الْبَشَرِيَّةِ.